[b][size=24]الزُهْد
الزُهْدُ هو وجهٌ لعيش الفقر الروحي الإنجيلي. هو عدم الرغبة في التملّك من أجل الله. هو أن نقول لله: كل شيءٍ لا قيمة له أمام حضورك، لأنك أنت الثمين، أنت الكنز، من أجلك نتخلّى عن كل شيء.. ليس لأنّ الأشياء سيئة بحدّ ذاتها، ولا لأن التملّك شرّ، ولكنَّ الزاهد هو من أراد أن يقول: "الله وحده يكفي".
الزهد هو التحرّر من كل ما يُعيق النموّ في الحياة بالله، شيئاً كان أم شخصاً أم الذات نفسها. وهو تالياً، لا يخصُّ النساك والمتصوفين وحسب، وإن كانوا هم السبّاقين في السعي إليه، بل إنه موقف داخلي إنجيلي يدعو كلّ مسيحي التحلي به متشبّهاً بالله نفسه.
زُهْد الله في خلق الإنسان!..
الله فقيرٌ.. زاهِدٌ.. غريبٌ عن التملّك.. "ليس لله أيّ شيء، لأنه كل شيء، فالذي هو كلّ شيء لا شيء له"..
إن الله منذ أن خلق الإنسان زَهِدَ بجميع ما خلق لصالح الإنسان، افتقر من أجل من ميّزه عن الخليقة بإبداعه له على صورته ومثاله. الله لا شيء له، لأن كيفية وجوده هي في العطاء الكامل، في فرح "إخلاء الذات". الله بخلقه الإنسان يفتقر بوجهين: الأول في فعل خلق الإنسان بحدّ ذاته، عندما يخلقه حرّاً على صورته ومثاله، أي يهبه كيانه. والثاني، عندما يُقدّم له الخليقةَ بأسرها هدّية مجانيّة: "تسلّط على سمك البحر وطير السماء.. انموا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها"..
يميّز الآباء القديسون في هذه القراءة بين "الصورة" و"المثال"، فيقول باسيليوس الكبير (القرن الرابع): "نحن قد نلنا الصورة بالخلق، ولكننا نحصل على المثال بالإرادة.. بإرادتنا نتشبّه بالله، نصبح مثاله"..
هل يعني أننا مدعوون إلى التشبّه بالله في زهده؟!.. كيف يمكن للإنسان أن يختبر الزهد تشبّهاً بالله؟!.. كيف يمكن أن يكون لا شيء له، لأنه كل شيء؟.. أن يكون "فقيراً وهو يغني كثيرين" (2كور6/10)؟!..
يقول أوريجانس المغبوط (القرن الثالث): "لقد اقتبل الإنسان في خلقه الأول كرامة الصورة، لكنَّ كمال المثال محفوظ للنهاية. أي أنه ينبغي على الإنسان أن يكتسبه بنفسه، بجهوده الخاصة التي يبذلها كي يتمثّل بالله". ويقول إكلمنضس الإسكندري (القرن الثالث): "الإنسان يصير صورة الله.. الإنسان يؤازر الله في صيرورة الإنسان".. أما إيرناوس أسقف ليون (القرن الثاني) فيقول: "إن تجلي مجد الله هو الإنسان الممتلئ بالحياة"، و"الامتلاء" من الحياة لا يتحقّق إلا بالتشبّه بالله في "إخلاء الذات" والنموّ في هذا التشبّه، وهذا النمو يستغرق حياة الإنسان كلّها إلى أن يستقرّ نهائياً في الله. الله لا يغتني إلا بالإنسان.. والإنسان أيضاً، لا يغتني إلا بالله. من هنا ضرورة تلازم الزُهدَين وإلا صار خلق الإنسان كارثة، وزهد الإنسان مرضاً.
زُهْد الله في شخص يسوع..
لقد كشف الله عن زهده، بشكل كامل ونموذجي، في شخص يسوع المسيح، آدم الجديد. يقول حبيب بن خدمة أبو رائطة التكريتي (825م)، وهو لاهوتي عربي: "إن قالوا: وما الذي دعا الله (سبحانه) إلى أن يتجسّد ويصير إنساناً؟.. يقال لهم: إن الذي دعاه (سبحانه) في البدء إلى أن يخلق آدم وذريته من التراب، بعد أن لم يكن شيئاً، فنفخ فيه من روحه ، ومن مَلَكَة تصرف فعاله، وجلب إليه جميع حالاته، وخوّله ما في البحر والبر والهواء، وأمره بمنافعه ونهاه وحذّره مضارّه، وأسكنه جنّته، وأوعده ملكوته، هو الذي دعاه إلى التجسد والتأنس، التماساً بذلك إنقاذه وذرّيته، وتخليصهم من ضلالة تسلّطت عليهم بتضعُّفهم أنفسهم بطول أُلفَتهم بها، وإنهاضهم من صرعتهم، وردهم إلى مرتبتهم الأولى. فإن قالوا: وما الذي دعاه إلى أن يخلق آدم وذريته؟.. يقال لهم: الذي دعاه إلى ذلك صلاحه وتفضله!.. فالذي دعاه إلى أن يتطأطأ إلى ما ليس بموجود، لا عبثاً ولا غرضاً، فيصيّره شيئاً ذا قدر وخطر، هو دعاه إلى أن يجدّد خلْقَتَهُ لما أخْلَقَتْهُ الخطيئة، وأعاد بريّته إلى حالها الأولى، كسابق علمه (له الحمد لم يزَل!) "
إن التجّسد، كما في خلق الإنسان، يكشف زهد الله. لم يولد يسوع كما يولد الملوك، ولم تكن حياته في الناصرة كحياة العظماء، ولم يكن لديه، في حياته العلنية، "موضع يسند إليه رأسه" (مت 8/20).. يبلغ إلى الصليب، وكنزه الوحيد هو ذاته، وذاته ليست سوى انتماؤه إلى الله أبيه.. وعندما قام من بين الأموات لم يظهر لعظماءٍ يعوّضون له ما تخلّى عنه، بل كعادته يخلي ذاته لكي يتلقاها مجدّداً من الله أبيه. لذلك نجد بولس الرسول يجد في فعل "زهد يسوع" برنامجاً للتشبّه به: "ليكن فيكم ما هو في المسيح يسوع، فمع أنه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمةً. بل أخلى ذاته آخذا صورة عبد وصار على مثال البشر. وظهر في هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العُلى، ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة في السموات وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كلّ لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيداً لله الآب" (فيل 2/5-11)..
فقراء الروح زهّاد من أجل الله:
من هم فقراء الروح.. الزهّاد من أجل الله؟
عمّن أتكلّم؟.. عن القديسين أم عن المتصوفين؟.. عن مريم أم عن يوحنا المعمدان؟ عن يوحنا الذهبي الفم أم عن أفرام السرياني أم عن سمعان العمودي؟ عن فرنسيس الأسيزي أم عن تيريزيا الطفل يسوع أم عن جرجي بيطار أم عن الأم تيريزا ؟
أيُّ زهد عاشته مريم في بشارة الملاك لها عندما قالت: "ها أنا أمة للرب، فليكن لي كقولك" (لو 1/37)؟.. الزهد هنا هو قفزة في المجهول، ضمانته الوحيدة هي شخص الله الذي يرافق ويرعى، وبرنامجه الأكيد هو كلمة الله: "ليكن لي كقولك". أي زهد صمتت مريم عنده في حياة يسوع في الناصرة؟.. أليس هو ابن الله، لماذا لم يفعل شيئاً طيلة ثلاثين سنة، سوى انه، وفي مراهقته، احتج على أبويه لما افتقداه في الهيكل. أي زهد عاشته مريم من تعاليم يسوع خصوصاً لما كان ينتقد كبار عصره (لو6/24).. وأمام معجزاته (لو4/22).. وأمام تصرفاته ومواقفه (لو8/19-21)، وهي التي ولدته وربّته وعرفته عن قرب. أي زهد عصر قلبها حين اخترقه سيفٌ قويٌ لما ارتفع ابنها على الصليب بعد أيام من دخوله المدينة المقدسة دخول الفاتحين..
الصمت زهد!.. تسليم الذات زهد!.. الصليب زهد!.. والشجاعة أيضاً زهد!.. لقد كان يوحنا المعمدان قويّاً لأنه كان زاهداً، كذلك كان إيليا والأنبياء.. لا يمكن للقويّ أن يكون قوياً بالحق، إلا إذا كان زاهداً!.. لأن الزاهد لا شيء عنده يخاف عليه سوى الحق. سئل أحد الزهاد: ماذا تريد من زهدك؟ أجاب: لا أريد إلا الله!.. هكذا كان كبار القديسين..
كان بولس يعيش في الضيق كما في البحبوحة (فيل 4/12). ويخسر كل شيءٍ ليربح المسيح (فيل 3/
ولا شيء يفصله عن محبة المسيح (رو 8/35)..
الطفولة الروحية أيضاً وجه من وجوه الزهد، تقول تيريزيا الطفل يسوع: "لستُ في حاجةٍ لأن أكبر، بل بالعكس، لابدَّ لي من أن أظلّ صغيرة، وصغيرة جداً، وأن أصغر أكثر فأكثر.. سوف أبقى أبداً طفلةً، ابنة سنتين أمامه تعالى كي يضاعف اهتمامه بي.. فالطفل يرتضي بصغره وضعفه، ويقبل أن يكون بحاجة إلى المعونة.. سأتوكَّل على الله أبي في كلِّ شيء، وأطلب إليه كلَّ شيء، وأرجو منه كلَّ شيء. سأترك له الماضي مع ما فيه من المتاعب والمآثم ليغفرها.. وسأقبل الحاضر والمستقبل منه مسبقاً كما تشاء يده الحنون أن تنسجها لي.. سوف أبقى أبداً طفلةً أمامه، وأحاول دوماً أن أرتفع إليه بالرغم من ضعفي ووهَني.. الطفل الصغير يستطيع المرور بكلِّ مكان لصغره.. إن أصغر لحظة حب خالص، لأكثر فائدة لها ، من جميع ما عداها من نشاطات مجتمعة.. [/size][/b]"