[b][size=24]مريم في منغالور الهند
تقرر إنشاء دير للراهبات الكرمليّات في مقاطعة منغالور الهندية، بسعي من النائب الرسولي في الهند، المطران ماري افرام، الذي شارك في المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول. وقد زار كرمل بو واطّلع عمّا تتمتّع به المبتدئة مريم من خوارق وإنعامات. فالتمس ان تكون تلك الشابة المبتدئة حجر الزاوية في تأسيس كرمل الهند.
وفي شهر آب من سنة 1870 أبحرت رئيسة دير بو Pau بصحبة خمس راهبات، بينهن مريم المبتدئة، إضافة الى ثلاث راهبات مساعدات، إتجهن جميعهنّ الى قناة السويس، ثم البحر الأحمر، الذي كان في ذلك الشهر بعزّ حرّه ولهيبه، حتى إن الكرمليّات أُصبن جميعهنّ بالدوار الشديد، والتقيؤ العنيف، بسبب القيظ الخانق، ورائحة البحر، والإعياء الشديد، كما أصيب معظم المبحرين. وبعد أيام توفّيت راهبة. ولم تمض ثلاثة ايام على وفاتها حتى توفّيت راهبة ثانية. فدفنتا في عدن (اليمن). وتقرّر إبقاء الراهبات العليلات جميعهنّ بعض الوقت في مرفأ عدن الى ان يتعافين.
وبعد أسابيع من العلاج والطبابة واصلن الرحلة الشاقة الى الهند. ولكنّ المفاجأة غير السارة عند وصولهن كانت وفاة الرئيسة الأم ماري ايلي. وبالرغم من هذه الخسارة الفادحة(وفاة ثلاث راهبات)، تمّ تأسيس الدير في منغالور، وتمّ تجاوز عقبات كثيرة. فكانت مريم ليسوع المصلوب اول مبتدئة كرمليّة تنذر في الهند نذورها الرهبانيّة. وكان ذلك في 21-11-1871. فارتبطت الى الأبد بنذور الطاعة والعفّة والفقر. وعُيّنَت رئيسة جديدة على الدير المستحدث. ولكنّها ما لبثت ان بدأت تضطّهد الأخت مريم، معتبرة ان كلَّ ما يحدث لها من خوارق إنما هو من فعل الشيطان. كما حرّضت الراهبات وأسقف المدينة على الأخت الناذرة، شاجبة "خزعبلاتها". فعاشت مريم امتحانا عسيرا لا بل استشهادا نفسيا قاتلا.
في هذه الأجواء الصعبة، تملّك مريم حنين قويّ يحثّها على الرحيل عن منغالور، والعودة الى دير بو في فرنسا، ذلك لأن مشروعا عظيما بدأ يختمر في ذهنها ويهزّ جوارحها طربا: ألا وهو تأسيس دير للكرمليّات الحبيسات في فلسطين وفي بيت لحم بالذات.
كرمل بيت لحم
لقد اصبح تأسيس كرمل بيت لحم شغل مريم الشاغل. ووصل خبر نيّة التأسيس الى مسامع الآنسة دارتيكوDartico وهي سليلة أسرة غنيّة عريقة من عائلات بو، فعزمت هذه المحسنة الكبيرة على تبنّي المشروع وتمويله. ولم يبق لتحقيق هذا الأمر سوى موافقة السلطات الكنسيّة، وعلى رأسها قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس التاسع، الذي وافق فور الاطّلاع عليه، وأردف قائلا:"فلتمضِ الراهبات الكرمليّات مصحوبات ببركتي".
وفي 20 آب سنة 1875 أبحرت سبع راهبات كرمليّات ومبتدئة، إضافة الى راهبتين مساعدتَين، ومموّلة المشروع الآنسة دارتيكو، ووصلن جميعهنّ بصحّةٍ وسلامة إلى ميناء حيفا. وانتقلن الى القدس حيث كان باستقبالهنّ بطريركها. ومن القدس الى مدينة النبي داود والسيد المسيح بيت لحم. وبعد شراء الأرض، بوشر بالعمل فورا. وأخذ البناء يرتفع. وكانت يد الربّ تسهّل جميع الأمور. ولم تمض ثمانية اشهر حتى أصبح الدير جاهزا ومؤهّلا لانتقال الراهبات اليه. وكان الجو السائد أنّ كلّ ذلك قد تمّ بفضل صلاة ودعاء وتشجيع الأخت مريم ليسوع المصلوب. وما إن سكنت الراهبات في هذا الدير الجديد حتى بدأت مريم تفكر وتعمل على إنشاء دير آخر في مدينة الناصرة.
مريم تشارك الفادي في آلامه
ولم تمض سنة على سكن الراهبات في بيت لحم، حتى أخذت الظواهر الخارقة تظهر في حياة مريم ليسوع المصلوب. وفي سنة 1876 أخذت سماتها الخمس تنزف بقوّة حتى إنها شعرت بأن دنوّ اجلها أصبح قريبا، لفرط الآلام المبرّحة. فطلبت منحها سرّ التوبة، ونالت الحلّة، ومن ثم تناولت القربان المقدّس. وبالرغم من كلّ ذلك، كانت تنهض لتأدية فروض الصلاة وبعض الأعمال الديرية. وفي احد الأيام سقطت من على السلّم فتحطمت ذراعها اليسرى، فاحتملت أوجاعها الاضافية هذه، بروح الصبر والشجاعة والإيمان.
وأعربت عن رغبتها في مسحة المرضى، فوفرها لها غبطة البطريرك. وكانت تشارك وتجيب على الصلوات. وبعد المسحة، إستغفرت الجماعة عن كلّ ما صدر عنها من إزعاج أو مشكلات بسبب سماتها او جروحاتها. وامتدّ مرضها اربعة ايام، الى ان أسلمت الروح بين يديّ يسوع ومريم وكان ذلك بتاريخ 26 آب من سنة 1878 ولها من العمر 33سنة.
كان الحشد كثيفا في مأتمها، وبالرغم من بُعدها عن الناس وعيشها ضمن جدران الدير بعيدة عن الأضواء، فقد كان الجميع يرددون:"لقد ماتت اليوم قديسة". ورقد جثمانها في كرمل بيت لحم.
إعلانها طوباوية
في احتفال مهيب، في كاتدرائية القديس بطرس، في حاضرة الفاتيكان في روما، أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية بتاريخ 13- 11- 1983. فظهرت عندئذ كنجمة ساطعة في سماء الشرق، تلك الكرمليّة الحبيسة الصوفيّة الأولى التي أنبتتها الأرض التي عاشت عليها العائلة المقدّسة:عائلة يسوع ومريم ومار يوسف، والتي منها انطلقت الرسالة والبشرى المسيحية وأفواج القديسين والقديسات. لهذا تفتخر بها الكنيسة المشرقية.
روحانيتها
إنها إبنة قديسيّ الكرمل الكبيرين تريزا الأفيلية ويوحنا الصليب ومعاصرة القديسة تريز الطفل يسوع. وقد نهلت من معين الكرمل الذي لا ينضب، فطُبعت بجراحات المسيح، وخبرت إنخطافات سامية بالروح شبيهة بتلك التي خبرتها أمها القديسة تريزا الأفيلية. وقد سارت على خطاها في الثقة المطلقة برحمة الله وحنانه، والإيمان الوطيد بعنايته ومحبّيه. هكذا خبرت مريم ليسوع المصلوب، الاستسلام الكلّي لمشيئة الربّ على مثال أختها تريز الطفل يسوع. وهذا ما نستشفّه من خلال القليل من كتاباتها وتعليقاتها الروحية.
ختاماً نقول إنَّ الظواهر الصوفية العديدة التي رافقت حياتها، لا تحجب عنا تواضعها الكبير وما امتازت به من محبّة أخوية وتسليم الذات الكامل للعناية الالهية ولهمسات الروح القدس.
أعداد الأب ميشال حداد الكرملي.
http://www.kobayat.org[/size][/b]