[size=24][b][size=24]انبثاق الروح القدس من الآب والابن
أولاً: الموقف الأرثوذكسي
مقدمة:
نواصل عرض قضية انبثاق الروح القدس ونتناولها الآن حسب موقف الكنيسة الأرثوذكسية ونركز كلامنا على نموذجين من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هما الأب متى المسكين والأنبا غريغوريوس.
إن لاهوت الروح القدس مبدأ من المبادئ الإيمانية الأساسية التي استلمها الرسل القديسون من الرب منذ البدء وسلموها إلى الكنيسة عبر التعاليم والإنجيل والأسرار: "عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" فالتساوي هنا بين الأقانيم واضح ومطلق على أساس وحدة الذات والجوهر في الله الواحد.
وقد تحددت عقيدة لاهوت الروح القدس في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381م دحضاً لهرطقة المكدونيين الذين كانوا ينكرون لاهوت الروح القدس.
لكن مازال هناك خلاف قائم في التعبير عن علاقة الروح القدس بالآب والابن. فموقف الكنيسة الأرثوذكسية يؤكد صيغة المجامع التي تؤكد انبثاق الروح من الآب بينما اضافت الكنيسة الكاثوليكية عبارة "والابن" أي منبثق من الآب والابن. وهذه العبارة لها تاريخها وأسبابها التي تم عرضها فيما سبق. وقد أعلن ذلك مجمع فلورانس سنة 1442 كعقيدة رسمية داخل الكنيسة الكاثوليكية.
1- الأب متى المسكين
في علاقة الروح القدس بالآب والابن يوضح لنا الأب متى المسكين- في كتابه "الروح القدس الرب المحيي" الجزء الأول والثاني- أن الروح القدس منبثق من الآب فقط مستنداً إلى بعض الآيات في الكتاب المقدس بجانب التقليد الأبائي.
من إنجيل القديس يوحنا (26:15) "ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من الآب روح الحق من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي" ويتابع الأب متى المسكين حديثه ويقول إن قول المسيح "أرسله أنا إليكم من الآب" أجبرنا أن نتبع المعنى اللاهوتي في كلمتي (الانبثاق والإرسال) ولو تعمقنا في معنى الانبثاق نجد أنه دوام انبعاث النور من مصدره أو كانبعاث الروح من مصدر الحياة حتى إن كلمة انبعاث في الأصل العبري تحمل تماماً معنى الانبثاق. واعتماداً على قول القديس باسيليوس في إحدى رسائله عن الروح القدس يقول الأب متى المسكين عن الانبثاق "إن الروح القدس الذي من نبعه تستمد كل الخليقة صلاحها هو متصل بالابن ولا يدرك إلا متصلاً به، أما كيانه فيأخذه من الآب الذي ينبثق منه... الابن هو الذي يعلن الروح القدس، والروح القدس ينبثق من الآب في الابن... والروح القدس يُستعلن في الابن وبه" رسالة القديس باسيليوس رقم 38/4).
ويواصل الأب متى، إن قول القديس باسيليوس يُنير عقلنا جداً وخصوصاً في جعل الانبثاق شديد الوضوح أنه من الآب فقط، إذ جعل الانبثاق غائباً أي لع غاية وغايته تنصب في الابن: منبثق من الآب في الابن. إذن لا يمكن أن يكون منبثقاً من الآب والابن وإلا لزم أن يكون منبثقاً منهما في آخر أو إلى آخر، ومن يكون هذا الآخر؟
لا يمكن أن يكون العالم أو الإنسان لن هذا معناه إما أن يكون أو الإنسان قائماً ازلياً كأزلية الانبثاق أو إما أن الانبثاق نفسه- المتعلق بالعالم أو الإنسان (وغير أزلى) هو أيضاً غير أزلي وكلا الوضعين خطأ"
أما إذا قيل إن الروح القدس منبثق من الآب والابن إلى لا شيء فهنا تُصاب كلمة الانبثاق بعجز كلي يفقدها معناها ومبناها. كأن نقول مثلاً إن النور منبثق من المصباح إلى لا شيء فالنور إن لم يكن له ما يستقبله كيف يُدعى نوراً وكيف يقال إنه منبثق؟ كذلك الروح القدس هو روح ونور وحق وحياة وحب منبثق من الآب ومستقرة في الابن أو معلن في الابن ومستعلن أيضاً بالابن. على هذا الأساس استطاع يسوع أن يرسله من عند الآب.
2- الأنبا غريغوريوس
يعتبر الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي، أن الوجود هو العمل الأقنومي الذي يميز الأقنوم الأول الذات، فالولادة والانبثاق مظهران من مظاهر الوجود فهما فعلان من أفعال الأقنوم الأول. لذلك عندما نقول إن أقنوم الذات (الآب) والد نعني أنه منه يصدر النطق (التعقل) وهذا يعني إنه ليس خارجاً عنه، وكذلك عندما نقول الذات (الآب) باثق نعني أيضاً أن منه تنبثق الحياة علماً بأن الحياة في الذات وليس خارجة عنه لأن الله في حقيقة الأمر هو ذات موجودة بذاتها عاقلة حية.
ويوضح الأنبا غريغوريوس أيضاً أن لكل أقنوم خاصيته ولا يتدخل فيها الأقنوم الآخر. فإن خاصية الوجود هي الخاصية الأقنومية التي يتميز بها أقنوم الذات فعمله الأقنومي هو ولادة النطق وبثق الحياة منه، وخاصية الوجود التي ينفرد بها أقنوم النطق والذات غير قابلة للاشتراك مع أي أقنوم آخر لذلك لا يمكن أن يشترك أقنوم النطق في بثق الروح القدس من الآب؛ وبالمثل لا يمكن لأقنوم الحياة الروح القدس الاشتراك في ولادة الابن من الآب لأنه لو كانت خاصية الوجود الذي هو أقنوم الذات يشاركه فيها الابن والروح القدس لما أطلق على هذه الخاصية أقنوم بالمرة لأن من شروط الأقنوم أنه متميز في خاصيته الأقنومية ولا يشترك معه فيها أي أقنوم.
لذلك يقول الأنبا غريغوريوس، رداً على الذين يقولون إن الروح القدس منبثق من الآب والابن، إن هذا الاعتقاد باطل، لأنه إن كان الله جوهراً واحداً له ذات واحدة ناطقة حية وأن الحياة والنطق صادران عن الذات الواحدة. وجب أن يكون النطق مولوداً والحياة منبعثة من الذات الواحدة. فكيف يُقال إن الحياة منبعثة من الذات ومنبعثة من النطق؟ لن هذا القول يجعل في جوهر اللاهوت ذاتية أو بالحري إلهية.
وبناء على هذا يكون أن الذات آب والنطق ابن الذات والحياة ابنة للنطق، فلا يكون الأب أباً فقط لكن يُسمى أباً وجداً أعني للنطق وجداً للحياة أي الروح القدس، وأيضاً في الابن أنه ابن فقط لأنه يصير ابناً للذات وأباً للحياة فيكون على هذا أن الابن مولود ووالد. فالاعتقاد باطل لأنه يجعل في جوهر اللاهوت تركيباً بينما الله ليس مركباً إنما هو بسيط بالمعنى المحض للكلمة.
الخاتمة
اقتصر دورنا فقط على مجرد عرض الموقف الأرثوذكسي ولم نتعرض للمقارنة بينه وبين الموقف الكاثوليكي. ولكن بالتعمق في القضية والمقارنة بينهما سنجد أن للاختلاف أسبابه الثقافية والتاريخية التي إذا ما تتبعناها جيداً لوجدنا أن الخلاف لفظياً وليس جوهرياً.
المراجع:
متى المسكين (الأب)، الروح القدس الرب المحيي، الجزئين الأول والثاني، دير القديس أنبا مقار- وادي النطرون.
غريغوريوس (الأنبا)، الهيبوستاس، القاهرة، 1985.
ثانياً: قضية انبثاق الروح القدس
1- الموقف الكاثوليكي
إعداد الطالب/ راغب مرزوق
سنتعرض الآن لمشكلة انبثاق الروح القدس بصفة عامة مع التعمق بصفة خاصة في حل هذه المشكلة انطلاقاً من كتاب سر الله الثالوث الأحد للأب/ فاضل سيداروس وسنتبع الخطوات الآتية:
1- المقدمة وسنلقي فيها الضوء على المشكلة تاريخياً
2- العلاقة بين انبثاق الروح القدس وولادة الابن
3- صيغة مقترحة للتعبير عن انبثاق الروح القدس
4- تعليق شخصي على الموضوع
5- خاتمة
3- عرض المشكلة تاريخياً:
القضية هي الروح القدس ينبثق من الآب والابن أم من الآب وحده؟ هذا من جهة العقيدة أما من الجهة القانونية هل يجوز للكنيسة إضافة شيء ما إلى قانون الإيمان؟
للإجابة على ذلك نقول أن انبثاق الروح القدس من الآب والابن لا سند له بصورة قوية في نصوص العهد الجديد هذا من جهة أما من الجهة الأخرى إن المجمع القسطنطيني الأول 381م نص على أن: الروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب دون الإشارة إلى دور الابن في هذا الانبثاق. في الأجيال الأربعة الأولى من المسيحية لم يتطرق الآباء لموضوع الانبثاق لانشغالهم بإثبات عقيدة الثالوث، وهذا لا ينفي عن البعض التطرق لهذا الموضوع مثلاً يقول القديس أغسطينوس: "إن الروح القدس ينبثق من الآب والابن كمن مبدأ واحد". ونجد تعبير مماثل عند الآباء الشرقيين حيث يؤكدون انبثاق الروح القدس من الآب والابن أو بواسطة الابن ومنهم على سبيل المثال لا الحصر القديس كيرلس السكندري. المشكلة حدثت عندما أضاف الغرب إلى قانون الإيمان لفظ "والابن" ويرجع هذا لأسباب معينة سنتعرض لها في التعليق الشخصي. في سنة 809م أمر الإمبراطور شارلمان بإضافة "الابن ولكن البابا لاون الثالث لم يوافق وقال: "وإن كانت العبارة غير متناقضة مع الإيمان لا تقبل لعدم ورودها في القانون النيقاوي. ولكن في سنة 1014م مع البابا بندكتوس الثامن أدخل الإضافة رسمياً في قانون الإيمان بضغط من الإمبراطور هنري الثامن.[/size]