[size=24]
الإفخارستيا حياتنا
بقلم الدكتور ليون خانجي
مقدمة
لقد أعلن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني هذه السنة سنة الإفخارستيا. إن هذا الإعلان جاء من قداسته بعد تأمل عميق وجاد من قبل الكنيسة لدور هذا السر في حياة الإنسان المسيحي وفي حياة الكنيسة الجامعة المقدسة في مسيرتها على هذه الأرض ريثما يتحقق وعد الرب بمجيئه الثاني. لقد كانت الإفخارستيا النقطة المركزية التي بنيت عليها عبادتنا المسيحية على مر الأجيال منذ عهد الرسل وإلى اليوم , لذلك من المهم أن ندرك رغبة الحبر الأعظم والكنيسة من إعادة التذكير وإبراز البعد الإيماني والروحي والإسخاتولوجي في احتفالنا بسر الإفخارستيا الذي سر حضور الله مع شعبه "الله معنا".
أ ـ الإفخارستيا حياة وإيمان :
عندما قال يسوع "أنا خبز الحياة... من أكل جسدي وشرب دمي ثبت فيَّ وثبتُ فيه... " ( يوحنا6: 48 و56) , أثار حفيظة سامعيه وانتقادهم له, فتركه كثيرٌ من تلاميذه الذين رافقوه في مسيرته التبشيرية. وربما كان أخصّ تلاميذه الإثني عشر في تلك اللحظة على وشك اتخاذ موقفٍ شبيهٍ بالآخرين عندما سألهم المسيح: "أفلا تريدون أنْ تذهبوا أنتم أياً؟" , لولا جواب بطرس المندفع بإيمان "يا رب إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك" ( يوحنا6: 67 ـ 68 )
واليوم ألا يكرر المسيح سؤاله علينا كما قبل ألفي سنة. ربما نقف حائرين من جوابنا, هل ننصرف كأغلب التلاميذ مرددين "هذا كلام عسير من يطيق سماعه", أم نتخذ موقفاً إيمانياً صريحاً كبطرس ونقول بقوله. في ليلة العشاء السري رسم المسيح سر الإفخارستيا والكهنوت, متمماً بشكلٍ مسبق ما كان سيتحقق على الصليب بعد حين. فأعطى تلاميذه الخبز والخمر محولاً إياهما إلى جسده ودمه سرياً وبشكلٍ يفوق عقلنا البشري. لم يفهم التلاميذ ما حصل إلا بعد حلول الروح القدس عليهم واستذكارهم للأحداث الماضية وعلاقتهم بالمسيح. هذه العلاقة الحميمة التي كشفت لهم عن عمق محبة الله الآب للبشرية. وهو ما عبّر عنه يوحنا الرسول بقوله: "ذاك الذي كان منذ البدء, ذاك الذي سمعناه, ذاك الذي رأيناه بعينينا, ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة... ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به أيضاً" (1 يوحنا 1 ـ 4 )
لقد عرف التلاميذ وفهموا معنى حضور المسيح سرياً في الإفخارستيا , فكانوا يجتمعون لكسر الخبز والصلاة ( أعمال 2 : 42 ). والكنيسة إلى اليوم تتابع عمل التلاميذ في إقامة الذبيحة الإلهية وسر الإفخارستيا بواسطة الكاهن :
"عندما تحتفل الكنيسة بالإفخارستيا, ذكرى موت ربنا وقيامته ,يُجعلْ حاضراً بالحقيقة هذا الحدث الرئيسي للخلاص , وهكذا يتمّ "عمل فدائنا". فما تقوم به الكنيسة اليوم لا يشكل استذكاراً لها فقط , بل إنها أيضاً إعادة استحضار سري. إنها ذبيحة الصليب تستمر على مرِّ الأجيال " ( الرسالة العامة , الإفخارستيا حياة الكنيسة , فقرة 11 ) . وتؤكد هذه الرسالة على "أنَّ الإفخارستيا ذبيحةٌ بالمعنى الحقيقي وليس فقط بالمعنى المجازي"
ب ـ الإفخارستيا محور إيماننا المسيحي :
مما سبق عرضه , أتساءل ما هو دور الإفخارستيا وأهميتها في حياتنا كمسيحيين أفراداً وعائلات تريد عيش إيمانها بالتزام وعمق؟ وهل يكفينا حضور القداس يوم الأحد لنرضي الله ونرضي أنفسنا بأننا نقوم بواجبنا الإيماني؟ وهل القداس أصبح بالنسبة لنا عادة , روتيناً , عبئاً , أم أنه مكان اللقاء بالرب يسوع فتنفتح أعيننا على حضوره معنا كما حصل لتلميذي عماوس ( لوقا 24 : 13 ـ 35 )؟
إنَّ حضور القداس يوم الأحد له أهميةٌ كبرى , وهو محور إيماننا المسيحي. ولكنّ هذا الحضور يبقى بدون فاعلية ولا أهمية تذكر إنْ لم يكتمل بتناول جسد المسيح ودمه. إنّ الإشتراك في قداس الأحد يُفترض به أنْ يكون فعل إيمان منّا بالمسيح الحاضر معنا ومع الكنيسة الجامعة. لذلك فإنَّ حضور هذه الوليمة المقدسة يجب أنْ يتمَّ بتواضعٍ وشكرٍ واستسلام بنوي لله الآب ولكلمته الأزلي المتجسد ولروحه القدوس المحيي. كم علينا أنْ ندرك أهمية الأفعال التي نقوم بها , فلسنا بعد أطفالاً نرضع الحليب وإنما بلغنا أشدنا وعلينا أنْ نعي ما نقوم به ونقدره حق قدره. في حياتنا اليومية عندما نجوع نأكل الخبز وعندما نعطش نشرب الماء لنملأ حاجاتنا , فكم بالأحرى دعوة المسيح المُحِبةِ لنا لنتناوله غذاءً روحياً يساعدنا على أن ننمو ونتقدس به , محولاً أجسادنا الفانية البشرية إلى هياكل لروحه القدوّس. وأتساءل كيف لي بعد أنْ تناولت جسد الرب ودمه , وأصبحتُ معه جسداً واحداً , سكن فيَّ وملأني من حضورهِ , كيف لي أنْ أخطئ إلى هذا الجسد وأهينه؟
إنَّ تناولنا للإفخارستيا لا يجعلنا واحداً مع المسيح فقط بل مع الكنيسة المعلمة جسد المسيح السري وواحداً مع أعضاء هذا الجسد كما أوضح بولس في رسالته ( 1 كورنتس 12 : 12 ـ 30 ). من هنا كم هو مهم أنْ نفهم كل أبعاد هذا السر ونحترمه ونقدسه ونتذوقه طعاماً روحياً لخلاصنا " لأنَّ جسدي طعامٌ حقّ ودمي مشربٌ حق. من أكل جسدي وشرب دمي ثبتَ فيَّ وثبتّ فيه " ( يوحنا 6 : 55 ـ 56 ). بعد تناولي للقربان, أدرك أنَّ جسد المسيح قد أصبح في فمي وبعد قليل سيملأ كياني كله من حضوره المحوِّل. أمام عظمة هذا الحضور ألا يجدر بنا أنْ نأخذ برهةً من الوقت لنسجد لله الآب لنشكره على عطيته الفائقة الثمن, وهذا أقل ما يمكن أنْ نقدمه من إحترامٍ وحبٍّ إلى من ارتضى أنْ يُحِدَّ ذاته اللامحدودة في قطعة خبزٍ تدخل جسدي الفقير لتغنيه.
أخيراً كم هو جميلٌ أيضاً أنْ نتأمل في العذراء مريم إمرأة الصمت والإيمان والتأمل. من كانت أحشاؤها أول بيت قربانٍ تجسد فيه المسيح الكلمة. أنْ نتأمل في نشيد " التعظِّم " الذي أطلقته ويسوع في بطنها شاكرةً إبنها وإلهها على كل ما قدمه لها وللبشرية من حبٍّ لا حدود له. ألا نتشبه بمريم العذراء عندما يسكن جسد المسيح فينا من خلال القربان المقدس مرددين معها "فليكن لي بحسب قولك" وبفعل الإيمان "آمين".[/size]