[b][size=24]موضوع (( قبول الآخر )) يحظى باهتمام كبير على المستوى الدولي والمجتمعي. لكن الكتاب المقدس ناقش الأمر منذ ألفي عام تقريباً، فماذا علَّم ؟
اقبلوا بعضكم لأجل بعض
(روم 14 : 1 – 12 / 15 : 1 – 13)
اقبلوا بعضكم بعضاً
إنَّ الإنسان كُتلة من المشاعر الإنسانية، بعضها موجود بالفِطرة والآخر مُكتسب ومصقول بالخِبرة. يحمل الإنسان مُشاعر متناقِضة، الحب والكراهية، الغيرية والأنانية، العطاء والأخذ. ويحمل قيماً ومُعتقدات تُسمَّى الخير، في مواجهة قيماً أخرى مُضادة تُسمَّى الشرّ. هذه المشاعر تختلف من واحدٍ لآخر، بل إنها تختلف في اليوم الواحد للشخص الواحد. قد يولَد إنسان في وطن مُتحضِّر له وزنه العالمي، فيُعطيه ذلك ميزة الحصول على جواز سفر يفتح أمامه كل الأبواب المغلقة. بينما يولد آخر في دولة فقيرة يناضل شبابها من أجل الحصول على تأشيرة دخول إلى إحدى الدول القريبة الثرية هروباً من طابور العاطلين الطويل، فيُحقِّق ذاته بالعمل والثراء الشريف. وقد يولد ثالث في مُعسكر لاجئين فلا يحصل على جواز سفر أصلاً. فيتعالى الأول على الثاني، ويتعالى الأول والثاني على الثالث، رغم أن هذه الخصائص والمُميزات ليس لإنسان الفضل في أن يتمتَّع بها، أو لآخر في أن يُقهر بسببها، الأمر الذي يدعونا لأنْ نقبل بعضنا بعضاً بالفِطرة.
لكن ما نسمعه كل يوم من أخبار الحروب والخلافات والصراعات، على مستوى الجماعات والأفراد، تؤكِّد أن نظرية قبول الآخر رغم أنها قريبة من الفِطرة الإنسانية، لكنها لا تُمارس عملياً. والسبب هو تراكم بعض الانتماءات الموروثة أو المُكتسبة، التي تؤدي في ظروف معيَّنة لأن تكون مصدراً لكراهية الآخر أو رفضه، بدلاً من قبوله. إنَّ الانتماء الموروث تختلف درجة الحماس أو الفتور له في الأسرة أو المذهب أو الدين أو الوطن. لكنه يمثِّل المادة الأسمنتية التي تربط حبيبات الرَّمال البشرية، فتكوِّن منهم كُتلة خرسانية مُتماسكة. وكلَّما كانت ثقافة هذا الانتماء مُزدهرة ومًنتعشة، كلَّما كانت قوة التماسُك بين الحُبيبات أقوى.
وقد تزداد قوة التماسُك بسبب الإحساس الجماعي بأن هناك خطراً على الجماعة من جماعة أخرى. وهنا يتقوى الانتماء الداخلي، لكن تتقوَّى أيضاً الدعوة لكراهية هذا الآخر الذي يختلف عنَّا أو معنا. وتظهر عبارة ( نحنُ & هُمْ ) التي هي أول كل شيء رفْض للآخر. إنَّ قبول الآخر مسألة مفيدة جداً لمن يقبل غيره , ولا يمكن أن يكون لها أي ضرر. فكلَّما قبلت الآخَرين كما هم بعيوبهم ومميزاتهم، سوف تجد لنفسك قبولاً لديهم. فتتَّسِع دائرة معارفك وأصدقائك، وهذا مكسب كبير على أي حال. لأنك تستطيع أن تنتقي بعضاً من هؤلاء ليكونوا أصدقاء لك. وتنتقي بعد ذلك بعضاً من أصدقائك ليكونوا أخوة لك، تفتح لهم قلبك. أمَّا العداوة والكراهية ورفض الآخر، فهي أمر مُختلف تماماً عن ذلك.
رومية ص 14
يعالج بولس فيه مُشكلة لا تزال تواجهنا اليوم. فقد كان في كنيسة روما مدرستان فكريتان مُختلفتان
الأولى المدرسة المُتحرِّرة: وتنادى بأننا في المسيح قد تحرَّرنا من كل القيود والممنوعات، ولا يهمّ ما نأكله أو ما نشربه، ولا يهمّ أن نلتزم بقائمة طويلة من الممنوعات والمحظورات.
الثانية المدرسة المُتزمِّتة: وتنادي بأن المؤمن يجب أنْ لا يأكل اللحوم بل الخضروات فقط. ويجب أن يُراعي أياماً معيَّنة دون سواها من الأيام. ويجب أن يلتزم بقائمة الممنوعات.
أما بولس فقد وجد أن كلاً منهما مؤمن، وسمَّى الأول مؤمن قوي، والثاني مؤمن ضعيف. ولا زالت هذه المُشكلة قائمة حتى اليوم. ففي كل كنيسة المُتحرِّر الذي لا يرى ضرراً في بعض الممارسات. وهناك المُحافِظ الذي يتضايق من هذه الأشياء ويعتبرها مُضرَّة... أما بولس فإنه يقف إلى جوار المُتحرِّر. لكنه يطلب منه أن يقبل ويقابل أخاه المحافظ المُتزمِّت بالعطف والاحترام. ويقدِّم له هذه الأدلة على صحة ما يطلب:
1) ليس من حقّ أحد أن ينتقد عبد سيد آخر. فكل واحد يعطي حسابه لسيده. ولما كان كل الناس عبيداً للرب، فإن انتقادهم وكشف أخطائهم وعدم قبولهم ليس من شأننا، هو حقّ الله فقط.
2) مهما اختلف التفكير بين المُتحرِّر والمُحافظ، فإن هدفهما واحد، فكلاهما يريد أن يخدم الرب ويهتم به. إنَّ الهدف الواحد يجب أن يوحِّدنا، والمُمارسات المُختلفة يجب أن لا تفرِّقنا.
3) لا يمكن لإنسان أن يفرض وجهة نظره على الناس، فهذا يضرّ الكنيسة، عندما يظنّ أحد أن أفكاره وعقيدته وطريقته في العبادة هي وحدها الصحيحة، وكل ما عداه خطأ. فمن واجبنا أن نعرف الصواب، لكن ليس من الصحيح أن نفرضه.
القوي هو المسؤول الأول عن القبول
بهذه العبارة افتتح بولس ص 15" فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء ". وهنا يوجِّه حديثه للمؤمنين الأقوياء المُتحرِّرين. ويُشدِّد على مسؤوليتهم نحو إخوتهم الضعفاء. وفي الآية 7 يوجِّه النداء الأخير للجميع، أقوياء وضعفاء أن يتَّحدوا ويكونوا واحداً ويقبل كلٍّ منهم الآخر.
إنَّ الحديث عن قبول الآخَر سلاح ذو حدَّين. فإذا كان الهدف منه إقناع الشخص المقهور المُساء إليه دون القاهِر الذي أساء، فإننا بذلك نُساعد القاهِر على المقهور. لكنه حديث موجَّه للجميع. وهو دائماً محاولة لإعادة صياغة العقل والوجدان التي يجب أن تسود الكل. لكنه حديث يوجَّه بالأولى للأقوياء، الأمر الذي أكَّد عليه بولس هنا.
هذا هو الواقع
هناك اختلافات كثيرة بيننا في الكنيسة، ولا يجب أن نخشاها أو نتجاهلها. بل أن نقبلها ونُعالجها بحكمة. ولا يجب أن نتوقَّع أن نتوافق مع بعض في كلِّ شيء. فحتَّى في أفضل الكنائس لا يوجد هذا الشيء. لأن الله وضع إمكانيات ومواهب مختلفة لدى كل واحد لكي يعلَم الجميع أن كلَّ واحد يحتاج للكلِّ.
هذه الاختلافات تؤدي إلى واحدة من اثنتَيْن : الخلافات والانقسامات والخصومات. أو تكون مصدراً للتعليم وفرصة لتعميق الصلوات لأجل بعضنا البعض، وفرصة لتأكيد وحدة الجماعة، وفرصة كبير للتطوير والتحديث والنموّ والنُضج. الأمر يتوقَّف على درجة قبول الآخر. وكلّ واحد عندما يسمع الآخرين أو يراهم، إما مُتفاعل أو مُتنافر. إما مُتفاعل فيقبل ويتغيَّر ويتطوَّر. أو مُتنافر فلا يقبل ولا يتغيَّر ولا يتطوَّر.
المؤمن الضعيف والمؤمن القوي
يصف بولس المؤمن الضعيف بأنه شخص متأثِّر جداً بالأفكار القديمة ومُتمسِّك بها، وهو بذلك يتصرَّف بضمير وإخلاص لكن بدون معرفة. المسيحية عنده قوانين حرفية، ولا يعرف معنى الحرية المسيحية. وكل حياته مُعتقدات غير قابلة للنقاش، حتى في الأمور اليومية العادية.
أما المؤمن القوي فيصفه بولس بأنه يفهم المعنى الحقيقي للحرية المسيحية، فهو مُتحرِّر من القيود الطقسية والاجتماعية، إنه يفكِّر فيها بوعي قبل أن يعملها. والحياة المسيحية عنده ليست قوانين وإجراءات، بل هي أسلوب حياة جديدة. إنه يفكِّر في كل شيء، ويعدِّل مواقفه ويتكيَّف مع ظروفه.
أما موضوعات الخلاف التي عرضها بولس فهي خلافات ثانوية غير جوهرية ( أكل اللحوم // اعتبار الأعياد ). فهي خلافات سطحية، قبولها أو رفضها لا يُقدِّم ولا يؤخِّر شيئاً. أما بولس فإنه يشجِّع كل طرف منهما أن يلطِّف الجوّ ويخفِّف هجومه على الآخر. وهو لا ينصُر فريقاً على آخر، رغم أنه كان من المُتحرِّرين. لكنه يضع هذه المبادئ لقبول الآخرين
1)لا يجب أن يتهِم القوي الضعيف بأنه مُتخلِّف ويحتقره. ولا يجب أن يتهم الضعيف القوي بأنه دُنيوي ويَدينه. فلا يجب أن تكون بينهما إدانة أو ازدراء.
2) كلّ واحد ضعيف في جانب وقوي في جانب , المهم أن يعرف نفسه جيداً. والقوة والضعف حالتان غير دائمتين في الفرد الواحد. ولا يوجد أحد كامل القوة، ولا أحد كامل الضعف.
3) كلّ مؤمن قوي أو ضعيف يمكن أن يُعثِر إخوته. القوي عندما يفتخر بحريته ويفتقِر للحساسية لأخيه. والضعيف الذي يُضيِّق على أخوته بقوانين صارمة، ويتَّهمهم بالكُفر إذا حادوا عنها. لكن الواجب على كلٍّ منهما أن يكون حساساً لغيره.
4) هناك أموراً جوهرية واضحة في كلمة الله لا تقبل النقاش. ويجب ألا نبتدع قوانين إضافية ونضعها على مستوى كلمة الله. لكن هناك أموراً ثانوية قد نختلف حولها ونَقبَل بعضنا بعضاً.
5) لنضع نصب أعيننا هذا القانون الهام : وحدة في الأساسيات.. حرية في الثانويات.. لكن محبة في كلّ شيء[/size][/b].