[size=24][size=18]الصمت بين المسيحيّة والبوذيّة
[url=https://servimg.com/view/13665374/60][img]
https://i.servimg.com/u/f86/13/66/53/74/thumb10.jpg[/img][/url]يا له من اختلاف
الأب سامي حلاق اليسوعي
مقدّمة
«إنّ الأشخاص الّذين يتغذّون روحيّاً من تقاليد دينيّة مختلفة في العالم، لا يستطيعون أن يلتقوا حقّاً إلاّ في الصمت.» هذا ما يحاول بعض الّذين اختبروا الصمت أن ينشروه بين الناس. لكنّ هذا الرأي يؤكد أمراً واحداً وحيداً، وهو أنّ أدياناً كثيرة تُعير الصمت اهتماماً شديداً. فقد لاحظ كثير من المؤمنين الملتزمين بالحوار بين الأديان أنّ أبناء الديانات المختلفة، يزيدون الفوارق بينهم وبين أبناء الديانات الأخرى حين يتكلمون على خبراتهم الروحيّة بدل أن يخلقوا نوعاً من الاتّفاق. واستنتج بعضهم أنّ ما يثير سوء الفهم والصراعات بينهم هو الخطاب حول الخبرة الروحيّة وعقلنة ما لا ينتمي إلى المفاهيم العقليّة.
انطلاقاً من هذا التحليل، كلّما بذلَ الناس جهداً ليعبّروا عن السرّ الذي يُحيّهم، زالت إمكانيّة اللقاء العميق بينهم. لذلك لجأ المؤمنون الّذين يشتاقون إلى اختبار ما يوحّدهم في العمق إلى الصمت. وأصبحت وساطة الصمت مكاناً مفضّلاً بين المسيحيين ومؤمني الديانات الآسيوية (بوذيّة، هندوسيّة، شنتويّة ...)، حتى وإن كانت آراؤهم في العالم وفي الحياة البشريّة وفي التاريخ وفي مكانة الشخص البشري ... مختلفة تماماً. وفي كثيرٍ من الأحيان، لا يرى الّذين يختبرون الصمت العميق والشراكة الّتي فيه فائدة العودة إلى النقاشات حول ما يؤمنون به أو يختبرونه، إذ تبدو هذه النقاشات غالباً عديمة الثمر ومصدراً للصراع.
نحن نقبل أنّ الصمت يعبّر عن شيءٍ أساسيٍّ في الخبرة الروحيّة لكلّ واحدٍ، وإنّ الطرائق التي نتكلّم بها على هذه الخبرة، تعبِّر غالباً عمّا يفرِّقنا أكثر مما تعبِّر عمّا يوحّدنا. لكنّنا نريد لفت الانتباه إلى أنّ كلمة «صمت» لا تعني الشيء نفسه لدى الجميع. فهناك أنواع عديدة من الصمت. وكلّ نوع يمسّ فئة من الناس دون أخرى، ويعبِّر عن الاختلافات في خبرة الإنسان الروحيّة. فبعض أنواع الصمت مشترك بين الجميع، حتى وإن عاشه المؤمنون الّذين يسيرون في الطرق الروحيّة المختلفة بأساليب مختلفة. وبعضها الآخر يعكس خبرات فريدة لهذا الطريق الروحي أو ذاك. وسنقتصر في حديثنا هنا على خبرة المسيحيّة والبوذيّة للصمت، وسنرى كيف أنّ الإعلان بأنّ مؤمني مختلف الديانات يلتقون بشكل طبيعيّ تقريباً في «الصمت» ليس أمراً بديهياً أو حقيقة عامّة كما يبدو للوهلة الأولى. كما سنرى أنّ الاعتراف بالفوارق بين أنواع الصمت يساعدنا على التقدم معاً «رفاقاً في الطريق» نحو ملء الوجود .
ولما كان هذا الموضوع واسعاً، سننهج منهجيّة تشبه منهجيّة معلِّم الزِّن. فاللوحات الّتي يرسمها معلِّمو هذا التقليد رائعة. إنّهم يستطيعون ببضع ضرباتٍ من فرشاة التلوين أن يُظهروا مناظر رائعة. والمساحات الفارغة في هذه اللوحات تساعد في غالب الأحيان على تقدير قيمة اللوحة بمُجملها. لذلك سنضرب في هذا المقال بعض الضربات بالفرشاة آملين منها، ومن المساحات الفارغة الّتي تتركها بالضرورة، أن تساعد القارئ كي يكتشف كيف أنّ الصمت متعدِّد.
القاعدة الذهبية
تبرز ضربة الفرشاة الأولى القاعدة الذهبيّة لكلّ حوار، وطريقة تطبيق هذه القاعدة على التفسيرات الّتي نعطيها لمعنى الصمت في مختلف الديانات. القاعدة سهلة الصياغة حتّى وإن كانت صعبة التطبيق أحياناً: إنّ مفتاح فهم معنى كلّ تعبير يستخدمه تقليد دينيّ ليتكلّم على أهمّ ما فيه موجود دائماً داخل هذا التقليد. لذلك لا نفتّش لدى البوذييّن عن مفتاحٍ يشرح ما هي المحبّة المسيحية. وما من شيءٍ في المنطق الداخليّ للمسيحيّة يسمح لنا بفهم معنى الشفقة في البوذيّة. فالمحبّة بالنسبة إلى المسيحيّ هي فضيلة إلهيّة. بينما تُشرح المحبة في البوذيّة بدون الله (أي بدون الكائن المطلق، الإله المحبّ الّذي يقيم علاقة مع الإنسان). بالإضافة إلى ذلك، حين نتكلّم على المحبّة في الإطار المسيحيّ، نتكلّم دوماً على كرامة كلّ شخص، ولا يمكننا فصل هذه الكرامة عن القناعة بأنّ كلّ شخص مخلوق على صورة الله. بينما هذه الفكرة غريبة كلّ الغرابة عن المنطق البوذيّ. وكذلك فإنّ الشفقة البوذيّة تُفهم بعيداً عن أيّة مرجعية مسيحيّة. فالشفقة انعكاسٌ للحكمة الّتي يستطيع الإنسان بفضلها أن يرى بوضوح أنّ جميع الكائنات الحيّة في الكون (بشر وحيوانات) ترتبط بعضها ببعض. فحين يتألم أيّ كائنٍ تتألم جميع كائنات الأرض. وإذا وُلِد طفل في الشقاء ببلد بعيدٍ أتألم أنا. وحين أتألم يتألم العالم كله معي. انطلاقاً من هذه النظرة إلى العالم، يبدو واضحاً أنّه لا يستطيع أحدٌ أن يبقى غير مُبالٍ لأي شيءٍ على هذه الأرض. فالشفقة مفروضةٌ فرضاً وليست اختياراً، لأنّ الآخر ليس آخراً حقاً كما يبدو للوهلة الأولى.
علينا أن نلاحظ أنّ الشفقة البوذيّة والمحبّة المسيحيّة يتّم التعبير عنهما عملياً بطريقة مماثلة تماماً. فالمسيحيّون كما البوذيون يُسعفون المُتألمين. لكنَّ معنى سلوكهم والدوافع إلى مساعدة فردٍ آخر، وحتى مفهوم هذا الآخر، تختلف اختلافاً تامّاً. وهكذا، نرى كيف نخرج عن الصواب حين نعلن أنّه ما من فرقٍ بين المحبّة والشفقة. ويُقال الأمر نفسه في صمت البوذيّ حين يعكف على ممارسة النظام العقليّ، وصمت المسيحيّ الذي هو جزء من صلاته أو تأمّله. فمنطق كلّ تقليدٍ دينيّ هو الوحيد الّذي يمكّننا من معرفة ماهيّة الاختلاف في هذين النوعين من الصمت وطبيعته، وأن نعرف أيضاً ما هو مُشترك. لذلك علينا أن نحافظ على هذه القاعدة دوماً في تفكيرنا، ونحن نكتشف تدريجيّاً مختلف أنواع الصمت الّتي تعبّر بفصاحةٍ عمّا هو في قلب المغامرة الروحيّة للإنسان.
القيام بالصمت
إنّ جميع التقاليد الدينية تقدِّر الصمت، لأنّها تعرف أنَّه من المستحيل التقدّم في الطرق الّتي تقترحها إذا كان الضجيج يغزو الشخص من جميع الاتجاهات. فضربة الفرشاة الثانية تريد فقط إبراز الجهد الّذي على كلّ واحد أن يبذله كي يدخل في الصمت. وهذا الجهد كبير، لأنّ الصمت لا يعني فقط الابتعاد عن الضجيج الّذي يحيط بنا. فحين يكون الإنسان في مكانٍ صامت، قد يَعي الضجيج الرهيب الّذي يسكن في داخله. وبالتالي، فإنّ هذا الضجيج يُبطِّئ اندفاعه الروحيّ إبطاءاً. فمَن يحتمون بالضجيج الخارجيّ يعرفون في عمق أعماقهم أنّه يمكنهم تحمّل هذا الضجيج نوعاً ما في سبيل أن يحميهم من الاتصال بالضجيج الداخليّ المخيف جداً، والّذي تصعب السيطرة عليه. فكلّ تقليد دينيّ راقٍ يقترح على الإنسان وسائل تمكنّه من إسكات هذا الضجيج الداخلي الذي يفصل الإنسان عن عمق أعماق كيانه.
إنّ أتباع مختلف الديانات يتشابهون بشكل بسيط في الجهود الّتي يبذلونها ليصلوا إلى هذا الصمت. فجميعهم يسعون إلى إسكات الضجيج الداخلي الذي يمنع الإنسان عن رؤية الأشياء كما هي حقاً (هذا التعبير مهّم في البوذيّة ويستطيع أن يستعمله كلّ إنسان يفتّش عن الحقيقة). لكنّنا إذا بقينا أوفياء للقاعدة الذهبية، علينا أن نعترف بأنّ التقاليد الدينيّة لن تتّفق لا على ما يشكّل الضجيج ولا على معنى الصمت الّذي نسعىَ وراءه ولا على فائدة هذا الصمت (هذا إذا كانت له فائدة، إذ لا تقّر بعض المدارس البوذيّة باعتبار الصمت مفيداً أو غير مفيد).
لننظر نظرة سريعة إلى بعض الأمثلة. إنّ المسيحي المؤمن يعرف تمام المعرفة أنّ الضجيج الداخلي يمنعه عن ملاحظة «النسيم الخفيف» لروح الله الحاضر والفعّال فيه وحوله. إنّه يعرف أنّ الصمت يسمح له بالإصغاء إلى هذا النسيم وباستقباله، ويساعده أيضاً كي يصغي إصغاءً أفضل إلى كلمة الله الموجّهة إليه بطريقة خفية جداً. فسواء كان الأمر يرتبط بملاحظة روح الله أو بالإصغاء إليه، يظلّ الله آخر. فالقيام بالصمت يندرج في مسيرة روحيّة ذات بنية عقلانيّة. وبحسب المنطق المسيحيّ، من لا يرى الأمر هكذا «لا يرى الأشياء على حقيقتها». والضجيج الذي يجب إسكاته هو كلّ ما يجعل الإنسان عاجزاً عن الانفتاح على من يدعوه أي الانفتاح على الآخر (الآخروية).
والصمت ضروريّ أيضاً للبوذيين. فالضجيج الذي ينبغي إسكاته يرتبط ارتباطاً شديداً بالجهل الروحي الذي يمنع الإنسان عن التقدّم في الطريق الذي يقترحه البوذا. فإذا وضعنا جانباً الاختلاف بين مدارس البوذيّة في طريقة تحليلها لهذا الجهل، يمكننا القول إنّ المسألة ترتبط بعجز الإنسان عن قبول فكرة أنّه ما من شيء له وجود حقّاً بما فيه الفرد. وأنّ كلّ شيء هو بدون جوهر وبدون ديمومة. على هذا الأساس، يتّخذ الضجيج شكل «الأفكار المترابطة» التي تملأ فكر كلّ فرد وتُزيّف نظرته إلى الواقع. وتؤثر هذه الأفكار تأثيراً بالغاً في سلوك الفرد، إذ يرى جميع الأمور ويعيشها من خلالها. والأفكار المترابطة الأكثر أذىً هي التي ترتبط بوجود الإنسان كأنا دائم ومستمر، الأنا الّذي له وجود خاصّ لا يرتبط بأيّ شكل من الأشكال بالوجودات الأخرى. فيصبح هذا الأنا مركز العالم، ويتمّ التفكير بكلّ شيء واختباره انطلاقاً من هذا الأنا، فيظهر سلوك يتمحور حول الأنا ويخلق صراعات بين الفرد والآخرين، وصراعات في داخل الفرد نفسه. فإذا استطاع الفرد أن يُصمِت هذا الضجيج الداخليّ، كي يرى نفسه كما هي ويرى الآخرين كما هم ويرى ظواهر الحياة وأحداثها كما هي، يصل حينها إلى السعادة الحقيقية. وتُختصَر هذه الأفكار كلّها في جملتين من كتاب دْهامّابادا وهو كتاب حِكَمٍ للشريعة البوذية القديمة، كما أنّه أكثر الكتب استعمالاً لدى البوذيين من جميع الطوائف والتيارات.[/size]