[b][size=24]الفقر والبتولية
يتأصل ايمان مريم في كونها انسانة بسيطة متواضعة تنتمي الى جنسنا وبشريتنا فهي بشر مثلنا وعلى قدر ما كانت تعيشه من رجاء تمكن الله ان يتجسد فيها..والعذراء مريم قد ركزت في عمق نفسها رجاء شعب الله كله...هذا الشعب الذي تاق للخلاص بعد ان ارهقه حمل عبء الخطيئة منذ سقوط ادم... فعاش متطلعا حاملا الرجاء بانتظار حقيقة معينة. اذ كان ينتظر ملء الازمنة، ينتظر المسيح انتظار يفوق الخيال..والعذراء باسم الشعب كله وباسم البشرية كلها تقول للرب " نعم " فتحققت المعجزة بايمانها اذ قبلت ابن الله وولدته.
ايمان مريم:
ان عظمة مريم تكمن في فقرها وبتوليتها... انها فقيرة بالمعنى الصحيح، تفتقر من ذاتها لتغتني من الله الذي لم تكن لاحد غيره.
انها فقيرة بمعنى انها لم ترغب في ان تزيد من كيانها شيء، بل سمحت لله ان يعطيها كل شيء. لقد امتلأت نعمة لانها لم تضع اي شيء اخر محل الله في نفسها.
اما فيما يخص البتولية فان مضمونها وقيمتها تبلغ ملئها على ضوء الانجيل في مريم فقد اصبحت مع بقائها عذراء أما لابن الله.. اذ صارت الامومة والبتولية مرتبطتان مع انه مستحيل الجمع بينهما لعذراء الناصرة، فما ان سمعت الملاك يخاطبها قائلا " ها انك ستحبلين وتلدين ابنا تسمينه يسوع " حتى بادرته بالسؤال " كيف يكون لي هذا وانا لا اعرف رجلا "؟ (لو1/ 31، 34). فما هو معروف ان الامومة هو ثمرة الارتباط بين الرجل والمرأة ولما كانت مصممة على بتوليتها طرحت هذا السؤال على الموفد الالهي فتلقت الاجابة الموضحة ان " الروح القدس يحل عليك ".
فأمومتها لم تتم نتيجة تعارف زوجي بل ستكون من صنع الروح القدس وان قدرة العلي ستظلل سر الحمل بابن الله ومولده.
لقد عبرت عن بتوليتها بقولها " اني لا اعرف رجلا " لو1/ 34. واصبحت في ذات الوقت أُمّا.. ان مبادرتها بالسؤال حول كيفية اتمام هذا الامر تختلف عن اجابة زكريا للملاك حين قال: "كيف يكون هذا وانا شيخ كبير وامرأتي عجوز " لو1/ 18، فجوابه يدل على عدم ايمانه بقدرة الله على فعل المستحيل.
قبول ارادة الله:
لكن مريم تجيب وبكل خضوع جواباً يدلل على قبولها الكامل لكل ما يفعله الله بها. وما سؤالها إلا استفساراً ورغبةً في معرفة السر فأبدت استعدادها لقبوله حتى وان لم تفهمه... وكأنها تقول " هل تريد فعلا ان ابدل حياتي ؟ ". انها بفقرها وبتوليتها أعطت مجالا للرب وتركت له الحرية ليصنع بها العظائم وقبلت ان يتخطاها هذا السر وتتم مشيئة الرب فيها...
ذلك ان الله قد وضع في الانسان قدرة على التفوق على نفسه في حركة تفوقية توصل في النهاية الى الله. وماحدث في العذراء حين ولدت من هو أكبر وأعظم منها ويفوقها تفوقا مطلقا يعني ان في داخل الانسان قدرات لا محدودة وبوجود أبعاد خفية لايمكن تصورها لانها أغوار
لا حدود لها، لا تستطيع بل مستحيل عليه استخدامها لوحده، لكن الانسان ان قبل وبكل خضوع ان يعمل الله فيه فلن يكون هناك مستحيلا او غير مستطاع...
فبالقبول يصبح ما يظنٌه الانسان مستحيلا مستطاعا، لانه لامستحيل عند الله. لكن الانسان يضع بمفاهيمه وتفكيره حدودا لمقدرة الله ولما يستطيع ان يعمله في حياته.
ان العذراء مريم ومن اجل فقرها وقبولها لعطية الله " ليكن لي حسب قولك " تم تجسد ابن الله في احشائها فإلتصق الله بتارخ البشر وإتحد بكل انسان من خلال معجزة التجسد في احشاء مريم حيث بدأت وحققت مفعولها فيها وستواصل تحقيقه في كل انسان لان الله مع البشرية للابد يعمل بقوته الفائقة فيها.
صنع بها عظائم:
" وهوذا القدير قد صنع بي العظائم ". لقد كشفت مريم بهذه الكلمات عن المواهب وعن جميع الثروات الخاصة بالانوثة وعن أصالة المرأة الازلية التي ارادها الله شخصا بذاتها جديرة بان تحقق ذاتها في الوقت نفسه عن طريق هبة نفسها بلا مقابل. فتجلى مجد الله في ضعفها وفقرها... لاشك ان هذا هو عمل الله في العذراء .. ولولا تجسد المسيح في احشائها لم تكن لتحصل على كل هذه النعمة... ففقرها وبتوليتها جعلتها متحررة وعبرت بجوابها المتسم بالايمان عن ارادة حرة وبالتالي عن المشاركة الكاملة بشخصها وانوثتها في حدث التجسد. وحين اجابت الملاك بالقبول اصبحت موضوع الاتحاد الحقيقي بالله. ذلك الاتحاد الذي تحقق في سر تجسد الكلمة الذي هو واحد مع الآب في الجوهر. ان كل عمل يقوم به الله في علاقته بالبشر يحترم دائما الارادة الحرة كما احترمها في العذراء مريم التي كان لها الفضل انها قبلت بحرية عطية الله...[/size][/b]