[b][size=24]إرتداد الرعيّة:
لم يكن هذا الإلحاد العمليّ سبباً لفقدان امل خوري آرس، فكان أوّل ما قام به هو تجديد أواني كنيسته، صارفاُ على هذا الأمر كلّ مقتنياته، فاشترى الكؤوس الفاخرة، وثياب القدّاس الباهرة، وأجمل صلبان المذبح والشموع الخلاّبة والأواني الأكثر زخرفة، فكان بعمله هذا يقول: "الرّب هو الأولى بالخدمة"، "تمضون الأحد في عمل الحقل وفي المقاهي، بينما الله متروك"، لقد قرّر الكاهن أن يعطي المقام الأوّل لجمال خدمة الله. إثر هذا، بدأ ابناء الرعيّة يأتون الى القدّاس، ليروا ما يحدث أوّلاً، ثم يبقون إثر كلمات خوريهم. وفي غضون أشهر قليلة، سوف تتحوّل آرس الى الرعيّة الأكثر التزاماُ في الأبرشيّة كلّها. لقد كان قاسيّاً بداية، ليجعلهم يعون فداحة خطأهم، كان يقول أن ليس من الضروريّ أن نقتل، أو نسرق مال أبينا وإمّنا لنكون ملعونين، بل يكفي أن نتبع صوت كبريائنا، لنذهب الى جهنّم. وبينما كان يعرّف راهباّ، قال له هذا الأخير"لقد كنت مهملاً في هذا الأمر، ولكن نيّتي كانت حسنة" فما كان من الخوري إلاّ أن أجاب "آه يا عزيزي، النوايا الحسنة، إن أرض جهنّم مرصوفة بها".
لم يكن ينام أكثر من ساعتين أو ثلاثة، ويقضي كل وقته في سماع الإعترافات، وكان التائبون يأتون اليه من كلّ فرنسا، ولم يكن يتوقّف الاّ ساعة القدّاس. "كان لخوري آرس طريقة تعاطي تختلف بحسب شخص التائب. من كان يأتي الى كرسي الإعتراف مدفوعاً داخليّاً وبضعة من حاجةٍ الى المغفرة الإلهيّة، كان يجد لديه التشجيع للغوص في "غمر الرحمة الإلهيّة" التي تغسل كلّ شيء بجرفها. وإن كان أحدٌ يتألّم منالضعف وعدم المثابرة، خائفاً من سقطات مستقبليّة، كان خوري آرس يظهر له سرّ الله بعبارات تلمسنا بجمالها: "إن الله الفائق الجودة يعلم كلّ شيء. وقبل أن تعترف أنت، كان يعلم أنّك سوف تسقط مرّة أخرى، ورغم هذا غفر لك. كم هو عظيم حبّ الهنا الّذي يندفع الى درجة أنّه ينسى المستقبل بإرادته، لكيما يغفر لنا". أمّا الّذي كان يعترف بفتور وبقلّة اكتراث، فكان خوري آرس يقدّم له، عبر دموعه هو، الدليل الساطع والأليم على كم أن تصرّفه آثم، قائلاً: "أنا أبكي لأنّك لست تبكي". "لو أن الله لم يكن صالح اً، ولكنّه صالح، وحده البربريّ يتصرّف هكذا أمام آب صالح بهذا القدر". كان يجعل التوبة تولد في القلوب الفاترة، ويدفعهم، بعينيه، الى رؤية آلام الله بسبب الخطايا، آلام "متجسّدة" تقريباً على وجه الكاهن الّذي يعرّفه. أما الّذي كان يحضر لديه بتوق وقدرة على عيش حياة روحيّة أعمق، فكان يشرّع له أعماق الحبّ، شارحاً له جمالاً لا يوصف، جمال العيش متّحدين بالله وبحضوره: "كل شيء تحت أنظار الله، كلّ شيء مع الله، كلّ شيء لإرضاء الله... كم هو جميل هذا". وكان يعلّمهم كيف يصلّون: "يا ربّ، أعطني نعمة أن أحبّك بقدر ما يمكنني أن أحبّك".
لقد عرف خوري � �رس في الفترة التي عاش فيها كيف يبدّل قلوب الكثيرين وحياتهم، لأنّه عرف كيف يجعلهم يشعرون بحبّ الله الرحوم. هذا الإعلان عينه هو ضروري أيضاً في أيامنا هذه، وضروريّة شهادة مماثلة لشهادته عن حقيقة الحبّ: "الله محبّة" (1يو 4،
. فمن خلال الكلمة ومن خلال أسرار "يسوعه"، عرف جان ماري فيانّيه كيف يبني رعيّته، رغم أنّه كان غالباً ما يضطرب ليقينه بعدم أهليّته الشخصيّة، الى درجة التمنّي عدّة مرّات أن يتخلّى عن مسؤوليّة الخدمة الرعويّة لأنّه غير أهل لها بحسب ظنّه. إنّما بطاعة مثاليّة بقي دوماً في وظيفته، لأنّ الغيرة الرسوليّة لخلاص الأنفس كانت تلته مه. كان يسعى للإلتزام بكلّيته في دعوته الخاصّة وفي رسالته عبر حياة تقشّفيّة قاسية، وكان يشكي: "إن الكارثة التي تحلّ بنا، نحن كهنة الرعايا، هي ضعف الحياة الروحيّة"، قاصداً بهذا القول إعتياد الراعي الخطير على الخطيئة وعلى حياة الإستخفاف التي تحيا فيها نعاجه. لقد كان يقمع جسده، بالسهر وبالأصوام، لكي يمنعه من معارضة روحه الكهنوتيّة. ولم يكن يتردّد في إماتة ذاته من أجل خير الأنفس الموكلة اليه، ولكي يشترك في التعويض عن الخطايا الكثيرة التي كان يسمعها في كرسي ّ الإعتراف. كان يقول لكاهن آخر: "سوف أعطيك وصفتي: أُعطي الخطأة تعويضاً صغيراً، وأقوم بالباقي عوضاً عنهم". أكثر من الإماتات الملموسة التي كان يفرضها خوري آرس على نفسه، يبقى أساسيّاً للجميع قلب تعليمه: "إن النفوس ثمنها دم المسيح، ولا يمكن للكاهن أن يتكرّس لخلاصهم إذا رفض أن يشارك شخصيّاً "بثمن الفداء الباهظ"". (رسالة الأب الأقدس البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة افتتاح السنة الكهنوتيّة)
ورغم هذا الوقت الّذي قضاه في سماع الإعترافات، وجد خوري أرس الوقت ليؤسّس في رعيّته مدرسة وميتماً، دعاه "ميتم العناية الإلهيّة"، كما شجّع رعيّته على المشاركة بما أمكنها في الحملة التي نظّمها أساقفة فرنسا، بعد مرور سنوات الرعب، من أجل إعادة تبشير فرنسا. كان معدماّ من ناحية المال، إنّما لم ينقصه الطعام يوماً في الميتم: كانوا يذهبون لأخذ الخبز، فيجدونه فارغاً، فيأتون الى بيت الرعيّة ليشكوا لكاهنهم الأمر، فيطلب منهم أن يصلوّا معه، وبعدها يعودون الى الميتم ليجدوا المعجن مليئاً بالقمح.
وحين كانت عاصفة بَرَد تضرب آرس، كان الفلاّحون يأتون طالبين إذن كاهنهم لعدم المشاركة في القدّاس، ليذهبوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فكان يعلم كيف يجد الحلّ الوسيط بين خوفهم المحقّ وبين واجبهم الإيمانيّ، فما كان يتواني في تأخير القدّاس حتى عودتهم، لا بل كان يساعدهم أيضاً. ورغم ه� �ا، فإن سكّان الرعيّة كانوا يردّدون دوماً أن العواصف القويّة لم تضرب قريتهم بقسوة كما ضربت القرى المجاورة، وذلك طيلة حياة القديس بينهم.
موت الراعي:
سنة 1858، أي سنة واحدة قبل موت القدّيس، بلغ عدد زوّار آرس سنوياً حوالى مئة آلف زائر يأتون للإعتراف. ورغم أن أسقف الأبرشيّة كان قد أرسل اليه فريقاً من كهنة يعاونونه في الإعتراف، إلاّ أن الحجّاج كانوا يريدون الإعتراف أمامه هو، فكان يبقى في كرسيّ الإعتراف حوالى 17 ساعة يوميّاً. كلّ من عرف خوري آرس كان يقول أن طبعه لم يكن هادئاً، بل قاسياً وعنيفاً، والصبر لم يكن أقوى فضائله، ولك نّه كان يقمع طبيعته في كرسيّ الإعتراف، صابراً ساعات طوال لقبول توبة المؤمنين، فكان "يبدو كملاك محبّة ولطف، إنّما على محيّاه كنّا نرى الإنهاك والإجهاد" بحسب قول شهود عايشوه. قوّة الرّوح التي حرّكت حياة جان ماري فيانّيه لم يقدر قلبه على تحمّلها طويلاً، وفي الساعة الثانية فجراً من 4 آب 1859، أسلم الخوري القدّيس الرّوح بسبب الإنهاك، بعد حياة تعب وخدمة متواصلة، بعمر 73 سنة. ثلاثة وسبعون سنة قضاها في حبّ المسيح، واهباً له قلبه، واضعاً كلّ إمكانيّاته في خدمة الجماعة التي أوكلتها الكنيسة الى رعايته. مرّة، في صلاته، هاجمه الشرير صارخاً: "لو كان هنا ك ثلاثة مثلك على الأرض، لكانت مملكتي مهدّمة الآن"، لذلك أعلنته الكنيسة شفيعاً للكهنة، وللإكليروس الأبرشيّ بشكل خاصّ، لكيما يكون مثالاً وقدوة في عطاء الذّات الكامل، في حبّ المسيح، وفي الوفاء لدعوته، وفي خدمة النفوس التي توكل اليهم، لتقديسها وتقديمها للرّب دون وصمة "ودون أن يهلك منهم واحد".
إعلان القداسة:
في 8 كانون الأوّل 1905، أعلنه البابا بيوس العاشر طوباويّاً وشفيعاً لكهنة فرنسا. وفي 31 أيّار 1925 أعلنه البابا بيوس الحادي عشر قدّيساً، وفي العام 1929 عاد وأعلنه شفيع خوارنة الرعايا في العالم.
شهادة الأب لاكوردير: من أعظم الوعّاظ في تاريخ الكنيسة، كان جان باتيست هنري لاكوردير، واسمه في الدير الأب هنري دومنيك لاكوردير، راهباً من رهبة الآباء الوعّاظ (الدومنيكان)، ولد في ا2 أيّار 1802، ترك الإيمان في فترة الشباب، وصار محامياً لامعاً وخبيراً في فنّ الخطابة. إرتد عام 1824 وقرّر دخول الإكليريكيّة. طبع بشخصه كنيسة فرنسا في القرن التاسع عشر. ذهب الى روما لدرس اللاهوت ودخل رهبانيّة الدومينيكان، ثم عاد الى فرنسا ليعيد إحياء الرهبانيّة بعد منعها فترة الثورة وصار واعظ كاتدرائية سيّدة باريس الرسميّ. ذهب عام 1845 الى آرس ليتعرّف الى الخوري ال� �هير بعد أن سمع عنه الكثير في باريس، وعلم أهل القريّة بقرب حضوره، لأنّه كان من أشهر شخصيّات فرنسا، فحضّروا له الإقامة في قصر أحد النبلاء حيث قضى الليل. وعند الخامسة صباحاً ذهب الى كنيسة الرعيّة فوجدها مكتظّة والخوري بدأ الإعترافات منذ ساعات عدّة. بقي الضيف على شرفة الكنيسة الى أن حان القدّاس الإلهيّ، وألقى خوري أرس عظة عن الرّوح القدس، قائلاً "الرّوح القدس هو من يعمل في حديقة قلبنا". بعد القدّاس ذهب لاكوردير للتعرّف عليه وبادره قائلاً: "لقد عرّفتني على الرّوح القدس حقّاً"، أمّا خوري آرس فقال له "اليوم قد التقى النقيضان: العلم الأعظم والجهل الأعظم". ثم رافق الخوري الراهب الى القصر وكانا يتحادثان، ولمّا وصلا، ركع خوري أرس وطلب من الأب لاكوردير أن يعطيه البركة، فما كان من لاكوردير إلاً أن ركع بدوره، منتظراً نهوض الخوري ليباركه". وطيلة حياته، بقي لاكوردير يخبر عن هذا اللّقاء قائلاً: "أنا أجعل الناس يصعدون فوق كراسي الإعتراف (لأنّ الحشود كانت كثيرة حين كان يعظ، فكان الناس يتسلّقون كراسي الإعتراف ليروه)، أمّا هو فكان يجذبهم الى داخلها".[/size][/b]