[b][size=24]الحبّ يستطيع أن يصنع المستقبل..
بقلم: الأب شارل دُلِيه
أمام الشر الذي يجتاح العالم، يحاول الإنسان المعاصر أن يبحث عن أعذار… وهنا تأخذ العلوم الإنسانيَّة على عاتقها تفسير كل شيء بتأثيرات خارجة عن الإنسان: المثاليَّة، الطبقيَّة، وسوء التربية، والعقد النفسيَّة، والطفولة التاعسة، والضيق النفساني… كلُّ هذا صحيح ويؤثِّر في سلوكنا بعض الشيء. لكن إذا أضفينا على تلك الظروف صيغة المطلقيَّة، قضينا بها على النفس.
إنَّ ما يُهدِّد الإنسان هو اعتباره، على حدِّ قول دوستويفسكي، أحد مفاتيح بيانو وحسب. وهو خطر يجب على الإنسان أن يقف منه موقف الدفاع عن النفس، لأنَّه يحطُّ من كرامته، إذ من الأفضل أن يكون في نظر الناس مسؤولاً عن الشر الذي يفعله من أن يكون حجراً على رقعة شطرنج، وتُفسَّر أفعاله انطلاقاً من عوامل خارجة عن إرادته. إنَّ من يعترف بأخطائه يُعلن كرامته في العمق قائلاً: أنا كائنٌ حرٌّ ولا أحد يستطيع أن ينزع مسؤوليَّة أفعالي، حتَّى ولو نتجت عن تضافر عدَّة ظروف ومؤثِّرات.
إن لم أكُن مسؤولاً عن الشرِّ الذي أقترفه، فكيف أكون الفاعل الحقيقي للخير الذي آتيه؟ إن لم تكُن زلَّتي ملكاً لي، فهل يكون حبِّي ملكاً لي؟ الشرُّ ينتجُ عن حريَّة فاسدة، ولكنَّها قائمة، وأملنا الوحيد في أنَّها تُرمَّم يوماً ما.
إقرار بالذنب… ولكن أمام مَن؟ أمام ضميري؟ سوف يكون قاضياً عاطلاً أو جلاَّداً يخلو قلبه من الشفقة. هل أعترف للبشريَّة بذنبي؟ لكنَّها أسيرةُ الشرور مثلي، وتبحث هي أيضاً عمَّن تعترف له بذنبها. إن كانت حريَّتنا مطلقة فلأنَّها متجذِّرة في المطلق الذي تقوم عليه وحده وتثبت. لولا الله لكانت حريَّتنا وهماً وفراغاً لا يقابلهما شيء، وكنَّا على درجة كبرى من السخافة، وما كانت مركزاً لعلاقة… الحرُّ مسؤول وقادر على أن يجيب. عندما خلقني الله، دعاني وناداني، وفي الوقت عينه، جعلني حرَّاً قادراً على أن أُجيب. لولا النداء، لما كان الجواب. الحريَّة تحاور.
ولحسن الحظ، يستطيع الإنسان أن يقرَّ بذنبه أمام الله، أمام الحبِّ القادر على أن يخلق له مرَّة أُخرى المستقبل ووعوده…
يُسمِّي الإيمان المسيحي خطيئةً ذاك الشرَّ الذي يجعلني مسؤولاً عنه أمام الله. بيد أنَّ تلك اللفظة لا تعني شيئاً لغير المؤمن، فيرتكب مغالط وأخطاء. وحده المؤمن يستطيع أن يتحدَّث عن الخطيئة، لأنَّه يُدرك أنَّ خطاياه تبلغ قلب الله وأنَّ الإثم الذي نرتكبه يجرح في النهاية قلب الله.
هاك هو الانقلاب الذي أحدثه الوحي المسيحي: من الواضح أنَّ الله هو أُولى ضحايا الخطيئة في عالم متحطِّم يشكو الصغير فيه ظلماً والبريء جَوراً. وبالتالي فهو يتألَّم بسببها. وفهمنا العظمَة الحقيقيَّة التي أعطانا إياها، نحن معشر المخلوقات الحقيرة الصائرة إلى الموت. فكان لنا عليه سلطان وجعلناه يتألَّم حتَّى الموت، وارتبط بنا… لأنَّه يُحبُّنا حبَّاً جنونيَّاً.
لا يبحث الإنسان عن الشر، بل يسعى دوماً إلى الخير، خيره الشخصي، ولكنَّه ينخدع عندما يريد أن يُحدِّده. وهذا الخطأ مرتبط بحريَّته العميقة التي ترفض أن تقدِّم ذاتها، فيظنُّ عن جهل أنَّ المخلوقات تستطيع أن تجعله سعيداً، في حين أنَّ الله وحده قادر على أن يجعل البشر سعداء. الإنسان تَوقٌ لا حدَّ له وشوقٌ لا يُسبَرُ له غَور، وسرعان ما يصبو إلى أن يملأ ذلك الغَور بما يكتشفه من أمور صغيرة، في حين أنَّه معدود من أجل المطلق.
الحياة هي رجاءٌ لله من خلال كلِّ عمل وحركة، وغالباً ما نشبه، ويا للأسف، أُناساً ينتظرون زيارة صديق لهم، حتَّى إذا تأخَّر مجيئه، ينهمكون بعملهم فيشغلهم كليَّاً. وعندما يحضر الصديق الضيف، يستثقلون وجوده لأنَّ أشغالهم المتعدِّدة أخذت وقتهم الذي كان مُكرَّساً له.
كثير من الأشغال يملأ المجال الذي لا يحقُّ أن يشغله غير الله. لقد خُلق قلبُنا للآفاق الرحبة، فإذا بالقليل يفتنه. لقد أصبح عالم اليوم ماهراً في القضاء على شوق فينا إلى الجوهري، فنملأ نفوسنا من التوافه، ونستغني بها عن الفريد الضروري، في حين أنَّ الكلَّ هو من الله… نحتكر عطاياه لنجعلها ملكاً لنا دون سوانا، فلا نعتبرها علامة محبَّته لنا ودعوة إليه. إنَّ الخطيئة جحود للنعمة. إذ ذاك تصبح الهدايا حاجزاً بين معطيها وقابلها، بين الإنسان وإلهه. وكما تمحو الأمواج رسماً على رمل الشاطئ، هكذا يشحب وجه الله فينا ويتلاشى وينطفئ ما بنا من شوق ويموت.
تقوم الخطيئة فينا على خنق ما بنا من شوق إلى الله لكوننا نبخس الإنسان حقَّه في الوجود فيكتفي الخاطئ بالقليل ويطمئنَّ إلى الأصنام، ولا يعود يبحث عن شيء خارجاً عنها. ولكن مَن هو هذا الإنسان الذي يبطل فيه كلُّ حنين إلى الشاطئ الإلهي؟
الخطيئة إغفاءة القلب الذي لا يعود يشعر بشوق إلى اللامتناهي ويرتبك كينبوع في الرمل. قال يسوع: «احذروا أن لا تثقل قلوبكم في الخلاعة والسكر والهموم المعاشيَّة» (لوقا 21/34).
من خلال تلك الأصنام، نبحث عن نفوسنا. الخطيئة هي دوماً رفض الخروج من الذات سعياً إلى الآخر، وهي سعي جنوني وحثيث إلى الذات، وإنَّنا لنستمرُّ في محاولة تهدف إلى أن نتَّخذ من ذواتنا قلب العالم، في حين أنَّنا الخليقة العجيبة التي ليس لها مركز إلاَّ في الآخر. الخطيئة هي خلوٌّ وانكماش على الذات وانعكاف إلى الداخل، وهذا ما يُفقدنا الشبه بالله. وبدلاً من أن يُضيء النور الإلهيُّ وجهَنا، يلقي عليه ظلاً من طيَّاتنا وأنانيَّاتنا.
لا يختارُ الإنسان الشرَّ حبَّاً للشرِّ، ولا يجدُ نفسه أمام أمرين: اختيار الشر والخير، بل يواجه أخاه، بصمةً من الله، الذي يجب أن يُفضِّله على الكل، ويبذل ذاته في سبيله. فتتحقَّق إذ ذاك سعادته وتتمُّ غبطته. أمَّا إن رفض هذا العمل الخلاصي، فيصبح أسير ذاته وتنحصر حياته ضمن حدود أفقٍ ضيِّق. تلك هي الخطيئة التي تجعلنا نؤثر طبطبة الشاطئ على ريح البحر الواسع.
الخطيئة تتسرَّب إلى كلِّ مكان على مثال غبار فصل الجفاف في البلدان الحارَّة. ولا نتشاءم إن رأيناها تعمل في سائر مشاريعنا: إنَّها اللون لكلٍّ من أعمالنا. كما أنَّ الحنطة والزؤان يتداخلان، كذلك يتداخل الخير والشر كلَّما أردنا أن نعمل. أجمل عمل محبَّة يحمل بعضاً من أنانيَّة، وأجمل أفعالنا سعيٌ خفيٌّ إلى ذواتنا. في انطلاقاتنا الملأى بالرحمة، نحمل دوماً مرآةً نرى ذواتنا فيها، في حين نظنُّ أنَّنا على حب. على الإنسان ألاَّ ينظر إلاَّ إلى الآخر فينسى ذاته تماماً فيجيب بلا حساب ولا استرداد. وعلينا أن نكون ينبوعاً فيَّاضاً لا يميل إلى شخص دون آخر، ولا يهتمُّ بما يفعل الآخر بالماء الذي يأخذه. بيد أنَّ الالتباس ينحر حياتنا، كما ينخر السوس التفاحة.
إنَّ هذا الاكتشاف، الذي نجده أحياناً ثقيل الوطأة، لا يشلُّ حركتنا. في المثل، يرفض يسوع اقتلاع الزؤان كيلا يتاذَّى القمح (متَّى 13/24-30). يجب معالجة ما في قلبنا من وهن والقيام بمحاولة توسيع الحدود لمحبَّتنا يوماً بعد يوم. سوف نُصادف مناسبات تكون محبَّتنا فيها خاسرة كليَّاً، وأُخرى نبذل فيها بدون أمل الاسترداد. وأحياناً نخطو خطوة باتجاه الآخر، فلا نجد لها تقديراً، ونتمِّم واجباتنا، فلا يقرُّ لنا الآخرون بأيِّ فضل، ونذرف دموعاً في الخفية، عندما يظلمنا الناس ويتجاهلوننا، ونقوم بمبادرة بدافع وحيد هو الله وسرِّه اللاموصوف. آنذاك ينمو حبُّنا في الألم ويشفي منَّا كلَّ ما عشناه من أنانيَّة وعطَّلناه من أوقات.
المهمُّ هو أن نعرف في حياتنا أفعالاً تلامس الحبَّ الصافي فتعوِّض عمَّا أصابنا من انحرافات وتكون بمثابة زهرة صغيرة تتفتَّح لتبشِّر بالربيع الآتي قريباً. إنَّ تلك الانتصارات لهنيهاتُ نِعَم ونيرانُ مرح من النور تبدِّل في يومياتنا وتدعونا إلى الاعتقاد بأنَّ الشمس سوف تبدِّد ظلمتنا. وُلد الإنسان في بلاد الله ويتذكَّر أصله من وقت إلى وقت
نقلاً عن كتاب: الأب شارل دُلِيه اليسوعي، إلهي لا نفع له… مديح المجَّانيَّة، تعريب الخوري يوحنا الحلو، بيروت، دار المشرق، 1993، 108-115.
[/size][/b]