الشهوة .. و الخوف
ما هي شهواتك في الحياة ؟ وهل أنت عبد
لشهوتك ، أم أن شهواتك طوع يديك ،
تحت سيطرة حكمة مقدسة . وهل في
شهواتك تستشعر خوفاً . أريد أن أحدثك
في هذا المقال عن الشهوة والخوف .
الإنسان العادي تقوده شهواته :
وإذا استبدت به الشهوة تستطيع أن تخضع لها عقله وضميره ، وتستطيع أن تتمرد على جميع أحبائه ومشيريه ، وتبقى الشهوة وحدها ، وتصير إرادة هذا الإنسان ذليلة أمام شهوته .. لا يسمع لصوت عقله ، ولا يسمع لصوت ضميره ، ولا يسمع لصوت أحبائه
وتتنوع الشهوات التي تقود الإنسان :
هناك إنسان تقوده شهوة الجسد ، وآخر تقوده شهوة المال ، وثالث تقوده شهوة الشهرة أو شهوة العظمة ، ورابع تقوده شهوة التسلط على الآخرين ، وخامس تقوده شهوة الانتقام ... إلخ . وهناك شهوات جيدة قد تقود الإنسان أيضاً مثل شهوة العلم ، أو الرياضة ، أو الموسيقى . ولكن عيب أمثال هذه الشهوات يكمن في عدم التوازن ، إذا سيطرت على الوقت أو العاطفة على حساب أمور أخرى هامة .
وشهوات الإنسان قد تمثل نقطة ضعف فيه ، وبخاصة إذا عرفت عنه ، فيستطيع الغير أن يحرموه منها فيتعبوه . ولذلك فقد يضعف الإنسان أمام شهواته ، ومن أجل استبقائها أو من أجل تحقيقها قد يلجأ إلى طرق خاطئة كالتملق والرياء والمداهنة ، وربما يلجأ إلى الكذب أو الخداع أو التحايل ليحقق شهوة ما .
والشهوة قد يتبعها الخوف أحياناً : إذ يخاف الإنسان من عدم تحقق شهوته ، وإن كانت قد تحققت وأصبح يعيش فيها ، فانه قد يخشى ضياعها أو عرقلة طريقها بسبب من الأسباب . ولذلك حسناً قال القديس أوغسطينوس :
] جلست على قمة العالم ، حينما احسست في نفسي اني لا أشتهي شيئاً ، ولا أخاف شيئاً [ ..
حقاً ، إن الإنسان الذي لا يشتهي شيئاً ، لا يمكن أن يخاف إذ لا يوجد شيء يحرص عليه أو يخشى عليه من الضياع .. وما أجمل ما قاله أحد القديسين في ذلك : ] خير الناس من لا يبالي بالدنيا في يد من كانت [ ..
ومن هنا كان الزهد أحد العوامل الأساسية في القضاء على الخوف . إن الإنسان الزاهد لا يخاف موتاً ولا سجناً ولا إيذاء ، ولا حرماناً من مشتهيات العالم ، ولا أي تهديد من أي نوع . لانه قد زهد كل شيء ، ولم يعد يحرص على شيء يخشى أن يضيع منه ...
والشهوات قد تكون شهوات عالمية ، أو شهوات مقدسة . والشهوات العالمية قد وقف منها الكتاب المقدس موقفاً حاسماً في الآية المقدسة التي تقول : (( لا تحبوا العالم ، ولا الأشياء التي في العالم ، لأن العالم يبيد وشهوته معه )) . وذكر الكتاب
أيضاً أن شهوات العالم تتركز في : (( شهوة الجسد ، وشهوة العين ، وتعظم المعيشة )) .. ولما كان الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون رغبة ، لذلك كان على الرجل الحكيم أن يتحكم في شهواته ، إن الإنسان الجاهل ، أو الإنسان الخاطيء ، أو الإنسان الضعيف ، تتحكم فيه شهواته . أما البار فيسيطر على جميع رغباته ، ولا يستسلم اطلاقاً لشهوة خاطئة ، ولا يجعل إرادته تخضع لأية رغبة ضد مشيئة الله .
والرجل الحكيم لا ينتظر حتى تضغط عليه الشهوة ، ثم بعد ذلك يقاومها ، بل هو يتجنب هذه الشهوات .. يبعد عن جميع المثيرات والمعثرات ، ويتجنب العوامل الخارجية التي تغرس الشهوة في نفسه .. يبعد عن القراءات الخاطئة ، والسماعات الخاطئة ، والصداقات الخاطئة ، والمناظر الخاطئة .
وفي نفس الوقت يقوي محبة الله ومحبة الفضيلة في قلبه ، حتى تكون له حصانة داخلية ، تصد عنه كل الحروب الخارجية التي تحارب القلب .
إن شهوة الخير أقوى من شهوة الشر . والرجل البار يصد شهوة بشهوة . شهوة الخير هي شهوة الروح . وشهوة الروح قوية جداً إن كانت صادقة وعميقة . كما أن شهوة الروح تسندها المعونة الإلهية . إذا اشتهت الروح خيراً ، نجد أن الله يؤيدها بكل قوة . إن الإنسان البار في شهواته المقدسة وفي محاربته للخطية لا يقف وحده . بل يسنده الله بنعمته ، وتسنده الملائكة وأرواح القديسين ..
والشهوة الروحية لا تعرف الخوف . الإنسان الروحي في محبته لله ومحبته للفضيلة لا يخاف ، لأنه يشعر بقوة الله معه و يشعر باطمئنان داخلي سببه راحة الضمير وثقة القلب ..
إنما قد يخاف الإنسان الذي يسلك في الفضيلة خوفاً من الله وليس حباً للفضيلة . الذي يسلك في البر خوفاً من العقوبة ، هنا أو في العالم الآخر ، وليس اقتناعاً بهذا البر وحباً له . وليس هذا هو طريق الكمال ، إنما قد تكون هذه مجرد بداية تحتاج إلى أن تتعدل وتتطور في الطريق .
إننا نريد أن يصل كل إنسان إلى المستوى الروحي الذي فيه يحب الخير ويحب القداسة ، ولا يجد صعوبة في السير في طريق الله ، بل يجد في طريق الله لذة أقوى من محبة العالم كله .
ونريد الشخص الذي يرفض الخطية ولا يندم على رفضه لها ، ولا يشعر انه خسر شيئاً أو ضحى بشيء من أجل الله ..
نريد الشخص الذي يشعر انه يحقق وجوده الحقيقي بمحبة الله وبالثبات فيه . ولا يرى اطلاقاً أن محبة الله ستحرمه من ملاذ أخرى يشتهيها . كلا ، ان طريق الله ليس فيه حرمان ، إنما فيه سمو . إنما يشعر بالحرمان الشخص الذي يشتهي الخطية ، ويرى أن الله يمنعه عنها . فيتضايق من الله ، ويحسب الله عدواً له ، ويقاوم الله .. مثل الوجوديين الملحدين الذين يظنون أن وجود الله يلغي وجودهم هم . فمن الخير لهم أن الله لا يوجد ، لكي يتمتعوا هم بالوجود !!!
هؤلاء قد أخطأوا المفهوم الحقيقي للوجود .. ما هو الوجود ؟ هل هو الاستغراق في اللذة ؟! هل هو تحقيق الشهوات أياً كانت ، مهما كانت خاطئة ؟! هل هو السير في طريق الحرية المطلقة ، أي أن تسير النفس حسب هواها دون مراعاة أية مثل أو مباديء ؟!
إن الحرية الحقيقية هي تحرر النفس من الداخل ، تحررها من الشهوات ومن الخوف .. وعند ذلك سيكون هواها هوى مقدساً ، وستكون لذتها في الله وفي وصاياه ، وفي طريق البر والخير . وعندئذ ستحقق وجودها الحقيقي ، وجودها المثالي الذي يضمن لها وجوداً في الأبدية السعيدة .