التوبة
توجد موضوعات روحية تخص مجموعة
معينة من الناس دون مجموعة أخرى . على
أن هناك موضوعاً يخص الكل ، مهما حاول
البعض أن ينكر احتياجه إليه . أما هذا
الموضوع فهو التوبة ..
كل إنسان يحتاج إلى التوبة . لأنه لا يوجد أحد بلا خطية . الكل معرض للخطأ . والذي يقول إنه لا يخطيء هو بغير شك واحد من اثنين : إما أنه إنسان لا يحاسب نفسه جيداً ، وإما أن مقاييسه الروحية في حاجة إلى تعديل .
شعور الإنسان باحتياجه إلى التوبة ، هو دليل صحة نفسية ، دليل على أنه يريد أن يصلح حاله وينقي قلبه . أما الذي لا يشعر بحاجته إلى التوبة ، فلا بد انه سيبقى في أخطائه ، تمنعه كبرياؤه من الاعتراف بالخطأ ... إنه بار في عيني نفسه ، ولكنه ليس باراً أمام الله وأمام الناس ... حتى أن القديسين أنفسهم كانوا يجاهدون من أجل التوبة ، ولكن في مستويات عليا غير المستويات العادية ...
إن كان الأمر هكذا ،
فما هي التوبة إذن ؟
ليست التوبة هي مجرد ترك الخطية وعدم السلوك فيها ... فكثيراً ما يحدث أن يترك الإنسان الخطية لأسباب غير روحية ، يتركها ليس محبة للبر ، وليس لمحبته لله وإنما لأسباب أخرى ، يكون في خلالها خاطئاً دون أن يخطيء .
فقد يبتعد الإنسان عن الخطيئة أحياناً بسبب الكبرياء ، أو بسبب العناد ، أو بسبب الخجل ، أو بسبب الخوف : الخوف من أن يضبط ، أو الخوف من النتائج . أو
بسبب أن الفرصة لم تكن متاحة ، أو بسبب أن الخطية متعذرة أو رافضة ... وقد يرفض الخطية من أجل التظاهر بالبر أو من أجل مديح الناس ...
وفي كل هذه الحالات لا تكون الخطية في سلوكه ، وإنما قلبه ... هو يريد ولكنه لا يفعل ... والله فاحص القلوب والأفكار ، يعرف تماماً أن مثل هذا الإنسان ليس تائباً . إنه لا يزال في حياة الخطيئة ، ولا تزال للخطية سيطرة عليه ، وإن كان لا يخطيء بالفعل ...
إن التوبة هي حالة تغيير في القلب . هي نقطة تحول في حياة الإنسان ... هي تجديد للقلب .. هي حياة جديدة يحياها الشخص تختلف اختلافاً كلياً عن حياته الأولى في السقوط .
وقد يتغير إنسان ويسير في الفضيلة ، ولكنه لا يعتبر تائباً إلا إذا استمر في حياة الفضيلة دون أن يرجع إلى الوراء . فكثيرون يظنون أنهم تابوا ، وأن حياتهم قد تجددت ، ويستمرون في هذا الوضع الجديد مدة ، تحدث لهم نكسة روحية ، فيرجعون إلى أخطائهم ، والبعض يقومون ثم يسقطون ، ثم يقومون ويسقطون . وفي هذه الذبذبة لا نستطيع أن نقول إنهم تابوا ... ربما يكونون في مجرد محاولات للتوبة ...
إن ترك الخطية ولو إلى فترة ، ليس هو التوبة الحقيقية ...
فقد يبعد الشخص عن الخطية ، أو تبعد الخطية عنه ، ليس لأنه قد صار باراً ، وإنما لأنه في هذه الفترة بالذات غير محارب بهذه الخطيئة بالذات ...
إن الشيطان ذكي في حروبه، يعرف متى يحارب ، يعرف متى يحارب ، وكيف يحارب ، وبأية خطيئة يحارب الإنسان . وإن وجد الإنسان مستعداً استعداداً كاملاً ومتحفزاً كل التحفز لمواجهته في ميدان معين ، قد يترك هذا الميدان ويحاربه في موقع آخر .
فإن وجدت نفسك مستريحاً فترة ما من خطيئة معينة ، لا تظن أنك قد صرت نقياً من جهتها . ربما يكون الشيطان قد تركك إلى حين ريثما يعد لك كميناً في موضع آخر ، ثم يرجع إلى محاربتك مرة أخرى على حين فجأة بهذه الخطيئة التي ظننت أنك قد تبت عنها . لذلك كن حريصاً باستمرار ، يقظاً باستمرار ، مستعداً باستمرار ، لأنك لا تعرف في أية ساعة أو بأي شكل تأتيك الحرب الروحية ..
وقد تستريح فترة من خطيئة معينة بالذات ، ليس لأنك تبت عنها ، وإنما بسبب شفقة الله عليك . أراد لك فترة راحة حتى لا تكل في الجهاد ، أو لكيلا تقع في اليأس ... وربما تكون الخطيئة قد بعدت عنك بسبب صلوات بعض القديسين الذين تشفعوا فيك أن يمد لك الله يد المعونة حتى لا تسقط . ربما تكون القوة الحافظة المحيطة بك هي التي دافعت عنك ، ولا يكون قيامك راجعاً لتوبة ..
هناك إذن فرق كبير بين إنسان منتصر في حياته الروحية ، وإنسان غير محارب . وتظهر التوبة على حقيقتها إذا حوربت فانتصرت . وقد ينتصر إنسان في حرب خفيفة ولكنه يضعف ويسقط إذا كان أغراء الخطيئة شديداً وقاسياً . أما التائب الحقيقي فهو رجل الله الذي يحارب حروب الرب في عنفها وينتصر . ويستمر أمامه الأغراء ، ويستمر في نصرته ... مثل يوسف الصديق ...
هذه هي التوبة . إنها حياة النصرة . حياة الإنسان الذي يجاهد من أجل الرب وينجح . حياة القلب الذي يرفض الخطية مهما ضغطت عليه ...
ترك الخطية هو بداية حياة التوبة . أما كمال التوبة فليس هو ترك الخطية ، وإنما هو كراهية الخطية . وقد يكره الإنسان الخطية أحياناً بعض الوقت اشمئزازاً منها أو كرد فعل لبشاعتها ، ثم يرجع بعد حين ، بعد زوال هذا الانفعال فيشتاق إليها مرة أخرى . ليست هذه هي التوبة . إنما التوبة هي كراهية حقيقية للخطية ، كراهية دائمة بسبب أن هذه الخطية لم تعد تتفق اطلاقاً مع طبيعة الإنسان الجديدة التي تجددت بالتوبة ...
على أن كراهية الخطية هي حالة سلبية . أما الحالة الإجابية فهي محبة الله . والتوبة الحقيقية هي النتيجة الطبيعية لدخول محبة الله في القلب . إنها استبدال شهوة بشهوة . إنها حلول شهوة البر محل شهوة العالميات . حلول الله محل العالم في قلب الإنسان .
التوبة هي الدرجة الأولى في السلم الروحي . منها يرتقي الإنسان درجة درجة في حياة القداسة والنقاوة حيث يصل أخيراً إلى الكمال . والكمال هو قمة الدرج الروحاني ...
وهذه القداسة ، وهذا الكمال ، لا يعلنهما الله للإنسان دفعة واحدة ، لئلا يقع في صغر النفس ، ويرى أنه ليس من السهل عليه الوصول ..
الكمال كالأفق ، هو آخر ما تصل إليه رؤيتك . عنده ترى السماء والأرض متعانقين . فإذا ما وصلت إليه ترى افقاً آخر في انتظارك بعيداً عنه . وعندما تصل إلى هذا الأفق اللآخر تتطلع إلى افق أبعد .
وتظل تنتقل من افق إلى افق ، ترقى من كمال إلى كمال أعلى . وأعلى ما يصل إليه الإنسان من كمالات هو جهالة بالنسبة إلى الله الذي فيه يرتكز الكمال الذي لا يحد ، له المجد في كماله إلى الأبد ، آمين .