[size=24]مرضها ووفاتها
إنّ كثرة الأسفار والتأسيسات، والإصلاح والزيارات لجميع الأديرة التي أسّست، والإهتمام بكلّ راهبة وكلّ مبتدئة، والسعي الحثيث لإنجاح إصلاح الكرمليّين، والتقشفات الكثيرة، والصلوات المتواصلة، وقلّة النوم: هذا كلّه تراكم على جسد تلك المرأة الجبّارة، فساءت صحّتُها وَهَزَلَتْ بُنْيَتُها. ورغم كلّ ذلك ورغم سنيّها السبع والستين، انطلقت مجدّداً سنة 1582 لتأسيس دير جديد للراهبات في مدينة بورغس Burgos. فشعرت بالمرض يتآكلها، وبالسفر يضنيها، وبالبرد القارس ينهشها، وبالحمّى تجتاحُها. فما لبثت عندئذٍ أن عادت بعد ثلاثة أشهر إلى مدينة آفيلا، إلى ديرها الأول، دير القديس يوسف، الذي ستختم فيه حياتها...
وفي 30 ايلول 1582 حدث لها نزيفٌ أَلزمها الفراش. فأدركت انها موشكةٌ على الموت. فاستدعت الراهبات وجمعتهنّ حولها وأعطتهن توصياتها الأخيرة. وطلبت الصفح من جميع أخواتها الراهبات في جميع الأديرة. وطلبت المعرّف فاعترفت للمرّة الأخيرة. وبينما الأب أنطونيو يناولها القربان المقدّس صرخت بحرارة قائلة: "ربي وإلهي، ها قد أتت الساعة التي كنتُ أنتظرها بشوق كبير. نعم لقد حان الوقت لكي نرى بعضنا بعضا وجهاً لوجه. لقد حانت الساعة. لنمضِ. لتكن مشيئتك يا رب. يا رب أنا أموت ابنة للكنيسة". وعندما أتمّت هذا، سلّمت روحها لله بهدوء وسلام، يوم 15 تشرين الأول 1582، وهي ابنة سبع وستين سنة...
تعليم تريزا
لقد شقّت تريزا طريقاً جديداً للكمال المسيحي والوصول إلى الله. وهذا الطريق نابعٌ من خبرةٍ واستحضارٍ دائمٍ لله، كما يرتكز على شرحٍ مبسّط للجفاف الداخلي ولليبوسات الروحية التي غالباً ما تساعد على تطهير النفس وتُهيّئُها لعطاءٍ أكملَ وأقوى.
فالحياة عند تريزا ليست جموداً واستسلاما وبِطالة،
الحياة عند تريزا ليست مسيّرة مفروضة ومكتوبة بحروف من بولاد، إنها عكس ذلك، إذ هي تحرّكٌ مستمرّ نحو الأكمل، وعملٌ دؤوبٌ في خدمة الله والقريب، ومواظبةٌ على التأمّل وطلب النور من أبِ الأنوار. وحياة الكمال المسيحي كما جاء في تعليم تريزا ليس إلاّ حوارَ المحبّة المتواصل بين الله والنفس... وعند استحالة الصلاة تكفي عبارة: أنا أحبّك يا يسوع.
وقد عرفت تريزا كيف توفّق تماما بين شطرين في الحياة ضروريين: حياة التأمّل وحياة العمل – صلِّ واعملْ. إنه مبدأ كلّ حياة رهبانيّة...
من هنا برزت تريزا كمعلّمة كبيرة في الحياة الروحية أثّرت أبلغ تأثير على أخواتها الراهبات الكرمليّات، وعلى الرهبان الكرمليّين الحفاة، وعلى مرشديها ومعرّفيها، وعلى جميع الذين عايشوها من إكليريكيين وعلمانيّين وأساقفة، حتى بلغ صيتها جميع أنحاء إسبانيا.
وبعد موتها، تَخَطَّت شهرتها حدود إسبانيا إلى العالم كلّه، خصوصاً بعدما تُرجمت كتاباتها إلى معظم اللغات الأوروبية والشرقية. كما أقدم الآباء الكرمليون في لبنان على ترجمة "أعمالها الكاملة" إلى اللغة العربية، بعد أن أصبحت تلك الكتابات مرجعاً أوّلياً للاّهوتيين والمعلّمين الروحيين، وخصوصاً للمهتمين بالدراسات والحالات الصوفية التي عاشتها شعوب الشرق والغرب، خصوصاً في الهند والصين واليابان. وهذا ما حدا بالبابا بولس السادس إعلانها ملفانةً ومعلّمةً للكنيسة الجامعة في 27 ايلول 1970. وهكذا أصبح لدى الكنيسة ثلاث نساء يحملن لقب معلّمات الكنيسة: تريزا الأفيلية وكاترين السيانية وتريز الطفل يسوع.
واليوم ما زال لتعليم تريزا ولحياتها ولكتاباتها ذلك الإنتشار الواسع، وذلك التأثير العميق في معاصريها، وفي الأجيال اللاّحقة، حتى أيامنا هذه. وقد قال عنها شارل دي فوكو: "إن القديسة تريزا هي من هؤلاء المؤلفين الذين يجعلهم المرء خبزه اليومي...
الكتب التي تأثّرت بها تريزا
كثير من القديسين درس على ذاته أو بالأحرى تعلّم على سراج الأنوار العليا التي تضيء النفس وتنير زواياها المُعْتِمَة. وتريزا غاصت على تلك الحقائق الإنجيلية رغم عدم تخصّصها بأية دراساتٍ عليا... ذلك لأنها تشرّبت القداسة منذ صغرها، بفضل والدين تقيين، وبفضل إقبالها على مطالعة سير القديسين. أجل، لقد طالعت تريزا وتأثرت ببعض الكتب التي تأتي على ذكرها في كتاباتها. نذكر منها في الدرجة الأولى:
الكتاب المقدّس الذي تستشهد به دوماً؛ ورسائل القديس ايرونيموس؛ كتاب "الإقتداء بالمسيح"؛ وكتاب "أخلاقيات" للقديس غريغوريوس، وغيرها.
وطبعاً، المطالعة بالنسبة لتريزا، تعني تحويل ما طالعته إلى عناصر حيّة في حياتها كما تعني ارادة الهضم والصَّهر والتطبيق في الحياة. وقد اقتبست تريزا ما احتوته تلك الكتب من روحانيات تعلّمتها وعاشتها ووضعتها في كتب لكي تصبح لنا طريقاً يقودنا إلى الله.
كتاباتها
تركت لنا تريزا مؤلفات عديدة هي ثمرةُ خبرةٍ روحية غنيّة، أرادت من خلالها أن تعبّر عنها تعبيراً بسيطاً صادقاً وحيّاً. من كتاباتها نذكر:
كتاب "السيرة": الذي يحتوي على سيرة حياتها وقد كتبته بخط يديها سنة 1562 تلبية لأمر الأب غارسيا. وأكملته سنة 1565.
"طريق الكمال": كتاب قيّم جداً. كتبته تريزا سنة 1566 تلبية لإلحاح الأب بانييس الدومينيكي وأعادت كتابته سنة 1576 ليكون نافعا لجميع المسيحيين.
كتاب "التأسيسات". بدأت بكتابته سنة 1574 نزولاً عند طلب الأب ريبالدا، وأنجزته شهرين قبل وفاتها نظراً لأشغالها الكثيرة.
"المنازل": كتبته سنة 1577 واستغرقت ثلاثة أشهر في كتابته وذلك نزولاً عند طلب الأب غراسيان. وهذا الكتاب هو تُحفة من اللاهوت الصوفي. وهو بمثابة خلاصة لتعاليم تريزا الروحية. إنه دروس خِبرة عميقة في التأمّل والحياة الروحية. وهذا الكتاب هو بحق أروع ما خرج من قلبها وما خطّه قلمها.
هناك كتابات أخرى نذكر منها: "الأحاديث الروحية" و"أفكار حول محبّة الله" وكتابات غيرها نثراً وشعراً.
أمّا "رسائلها" فعديدة جداً. وهي موجّهة إلى مختلف الأوساط. وهي إنْ دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على تطلعات تريزا واهتماماتها بالحياة الإنسانية والروحية والمادية وكيفيّة التعاطي مع الأشخاص.
أخيراً، إن الملاحظة التي لا بدّ من قولها هي أن تريزا لم تكتب شيئاً إلاّ بأمر رؤسائها ومرشديها ومعرّفيها.
روحانية تريزا
قلنا إنّ تريزا عاشت روحانية هي نتيجة خبرة روحية حاولت أن تعبّر عنها في كتاباتها، ونلخصها بالأفكار التالية:
الله وحده يكفي: الإنسان الذي يعيش في دوّامة التمزّق والأنانية ويجد نفسه أمام حائط مسدود، إنّما ذلك نتيجة حتمية لولوج هذا الإنسان الخطيئة، وغياب الصلاة عن حياته.
ولكنّ الخطوة الحاسمة الأولى، تقوم على العودة إلى الذات، وتركها تتمركز في الله الذي يستحوذ على النفس، ويمتلك كلّ طاقاتها، فيحرّرها ويضعها في دوّامة حياة إلهية جديدة.
روحانية تريزا تدور بمجملها حول حياة جديدة متجدّدة باستمرار في المسيح:
قال بولس: "لست أنا الحيّ بل المسيح هو الحيّ فيّ". وتريزا اختبرت ذلك وعرفت أن الحياة الجديدة في المسيح لا تقوم إلاّ على نعمة الموت والولادة والقيامة على حياة جديدة، تماماً على مثال المسيح.
الصلاة حديث مع الله: تريزا هي محترفة صلاة. ففي أسفارها وأشغالها كانت تصلّي. وفي سكون الليل كانت تصلي. ومن خلال كتاباتها نستشف أن الصلاة كانت محور حياتها ورفيقة أعمالها ونجاح مشاريعها..
من أقوالها
أَنْ أموتَ، نعم. أن أُهزم أبداً.
لا يُقلقك شيء ولا يُرْهِبُك شيء. فكلّ شيء يزول، الله لا يتغيّر. وهو وحده يكفي.
الصبر ينال كلّ شيء ومن له الله لا يعوزه شيء.
فلتكن رغباتك أن ترى الله، وليكن خوفك أن تخسره، وليكن غمّك عدم امتلاكه، وليكن فرحك بالذي يقودك اليه، عندها فقط تحيا بسلام.
خلاصة
أجل هذه هي تريزا الأفيلية. هذه هي الراهبة الفذّة التي عرفت كيف تملأ حياتها وأيامها من العمل لبناء ملكوت الله على الأرض فتدَفَّق عملُها حبّاً عارماً لله وللكنيسة وللقريب. هذه هي شخصية تلك المرأة "المغرمة بالله" التي حلّقت في سماء الكنيسة، فعاشت بانيةً، مصلحةً، معلّمةً، تحت تأثير الروح والفرح والحرية والعطاء.
وهذا ما حدا باللاهوتي والمؤلف والشاعر الإسباني الأب لويس دي ليون الأغسطيني أن يكتب عنها فيقول:
"انا ما عرفت الأم تريزا ليسوع، ولا رأيتها أثناء حياتها على الأرض. أمّا الآن وهي حيّة في السماء، فإنني أعرفها وأكاد أراها دائماً في صورتين حيّتين تركتهما لنا عن ذاتها هما: بناتُها ومؤلّفاتها".
ونحن أبناء القرن الحادي والعشرين نقف اليوم حيارى أمام هذه الراهبة الجبّارة ونتعرّف إليها من خلال بناتها وأبنائها المنتشرين اليوم في كلّ بقعة من الأرض، يتابعون رسالتها. ونتعرّف إليها أيضاً من خلال مؤلّفاتها، وسيرة حياتها، إذ استطاعت من خلال صلاتها، وتسليمها المطلق لإرادة الله، وثقتها بنفسها وصبرها وفضيلتها وأشغالها وأسفارها وإنشاءاتها أن تقوم بوضع منهجيّة جديدة للرهبانيّة الكرمليّة. وعملها هذا يَعْجَزُ عنه جمهور من الرجال والنساء مجتمعين. فكيف بتريزا تناضل لوحدها! ولكنّها لم تكن لوحدها، بل الروح الكامن في أعماقها كان يُلهمها ويلهبها طيلة مسيرتها، فكانت المرأة والراهبة والرئيسة والمصلحة والمؤلفة والمؤسسة والمعلّمة الصوفية والإنسانة المغرمة بالله وبالكنيسة. وقد قيل عنها بأنّها أعظم امرأة في التاريخ بعد مريم العذراء. إن الله لعجيب حقاً في قديسيه!
اعداد الأب ميشال حداد الكرملي
للاستعلام الاتصال على العنوان الآتي:
ndcarmel@yahoo.comhttp://www.kobayat.org/ [/size]