[size=24][b]مقدمة
إنَّ الحديث عن الإشكاليات حول سرِّ الكهنوت، تقتضي فهماً عميقاً لأبعاده اللاّهوتية هذا الفهم يبنى على النظرة الموضوعية للبعد الكتابي والتاريخي. وفي هذا الإطار سنطرح إشكاليتين: الأولى متمثلةٌ في اللوثرية حيث القول بكهنوتٍ عام دون سواه، والثانية متمثلة في الكنيسة الأنجليكانية حيث القول بكهنوت المرأة. ثم نعرض موقف الكنيسة الكاثوليكيّة وما تقدمه من أسانيدٍ لتفنيد الآراء بشكلٍ منهجي من دون تلاشي الآخر، فهناك من القضايا الغير قابل للنقاش إلاَّ أنَّه يطرحها على بساط النقاش اللاّهوتي، مما يخلق حواراً فعّالاً لفهم الحقائق الإيمانية بعيداً عن أيّة نسبية. وهذا ما يعرب عنه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
أولاً: رفض الإصلاح البروتستانتي للكهنوت كسرّ
لقد دفع واقع الكنيسة المرتبطُ بالسلطة المدنيّة والمنحط من جهة الإكليروس لوثرَ إلى أن يعلن رفضه لسرّ الكهنوت والقولَ بكهنوت المؤمنين دون سواه. ومن ثمَّ يقرّ المصلحون بأنَّه لا دلائل كتابية يتأسسُ عليها سر الكهنوت الخاص/ السيامة الكهنوتية، ويرى لوثر في ذلك استخفافاً بشِعاً بسرِّ المعمودية، إذ أنَّ جميع المعمدين هم كهنة على نفس المستوى ونفس الطريقة. ومَنْ نلقبهم كهنة هم الذين اختيروا من بيننا للخدمة في الكنيسة. وهذا الاختيار نابعٌ من احتياجات الكنيسة للبعد التنظيمي، وما يقوموا به هو باسم الشعب. فالكهنوت ليس إلاَّ خدمة الكلمة، ومنه كلُّ معمد له أن يخدم الكنيسة بما فبها من أسرار مقدّسة. إنَّ الخدمةَ الوحيدة المؤسسة على العهد الجديد هي التبشير، والذي لا يبشر ليس بكاهنٍ. هذ وقد استعاض لوثر عن كلمة "كاهن" بكلمة "خادم"، وذلك لأنَّ لفظة كاهن متعلقةٌ أكثر بالوضع اليهودي والوثني. ويصل لوثر لأن يُكذّب الكنيسة الكاثوليكية بقوله: " إنَّ سرَّ الدرجة أنشأته مطامع البشر ورغبتهم في السيطرة والتملك، ولا رغبة للمسيح في ذلك".
1. الأسس الكتابية للاعتراض؟
+ «وأنتم أيضاً شأن الحجارة الحيَّة، تُبنون بيتاً روحياً فتكونون جماعة كهنوتية مقدَّسة كيما تقربوا ذبائح روحية يقبلُها الله عن يد يسوع المسيح» (1بط2/5).
+ «أما أنتم فإنَّكم ذرِّيَّة مختارة وجماعةُ الملك الكهنوتية وأمّةٌ مقدَّسةٌ وشعبٌ أقتناه الله للإشادة بآياتِ الّذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب» (1بط2/9).
+ «وجعلتُ مننهم لإلهنا مملكةً وكهنةً سيملكون على الأرض» (رؤ5/10).
+ «لأنَّكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، فإنَّكم جميعاً اعتمدتم في المسيح، قد لبستم المسيح: فليس هناك يهودي ولا يوناني، وليس هناك عبد أو حُرّ، وليس هناك ذكر أو أنثى، لأنَّكم جميعاً واحدٌ في المسح يسوع» (غلا3/26-28) .
2. كيف يمكننا فهم هذه الأدلة فهماً موضوعياً نزيهاً؟
إنَّ هذه الأدلة تشير من دون شكٍ إلى أنَّ جميع المؤمنين هم كهنةٌ بالمسيح، بفضل ما نالوه بالمعمودية. ولكن من ناحيةٍ أخرى لا تنفي هذه الدلائل الكتابية وجود كهنوت خاص، أراده المسيح نفسه بطريقةٍ واضحةٍ وصريحة. لذلك علينا أن نفهم هذه الدلائل في سياقها لا بمعزلٍ عنه. وإليك بعض المراجع التي تشير إلى رغبة المسيح وتأسيسه لهذا الكهنوت الخاص (يو15/16، 20/21-23، رو10/14-18، أف4/11-12، 1كو12/5-7، 12/28-29، 1تي4/14، 3تي1/6، عب5/4). ولقد عبر التقليد الآبائي عن فهمه لسرِّ الكهنوت طيلة خمسة عشر قرناً.
ثانياً: موقف الكنيسة الكاثوليكية من الإصلاح اللوثري
1. المجمع التريدنتيني 1545-1563
انعقد المجمع للرد على لوثر، ولاسيّما اعتراضه على سرّي الإفخارستيا والكهنوت. فتطرق آباء المجمع إلى تعريف الكهنوت إنطلاقاً من سرّ الذبيحة الإفخارستيا، مذكّرين بعدم انتهاء كهنوت المسيح بموته، إذ أنَّ المسيح نفسه رغب في أنَّ يترك لكنيسته ذبيحةً منظورة تتفق مع طابعها البشري. هذه الذبيحة تقدم الذبيحة الدموية التي تمت مرةً واحدةً على الصليب حتى نهاية الأزمنة كذكرى وحضور حقيقي وجوهري (1كو11/23). وفي نفس الاتجاه تطلب الاحتفال بالافخارستيا أن يؤسس المسيح كهنوتاً جديداً مرتبطاً تماماً بكهنوته. وبناءً عليه نلاحظ أن نقطة انطلاق المجمع كانت إفخارستيا وذبائحية. وقد جعلهم هذا يولوا الاهتمام الأكبر لموضوع واقعية ذبيحة القداس، وبالتالي لم يأخذ موضوع الخدمة الكهنوتية حقَّه في النقاش. كما صَعُبَ الحديث عن كهنوت المؤمنين، بهذا المنهج لم يصل آباء المجمع لتقديم لاهوتاً متكاملاً عن سرِّ الإفخارستيا. وجديرٌ بالذكر أنَّ المجمع أعلن أن مَن يعلم خلاف المجمع يكن مبسلاً.
2. المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول 1870
شدّدت الحقبة اللاحقة للمجمع التريدنتيني على دور الكاهن في سرّي الإفخارستيا والتوبة، ولم تعر التشديد اللوثري على أولوية التبشير اهتماماً، فنُظرَ إلى اللوثري لا ككاهن بل كمبشر، وذلك لانقطاع وضع الأيدي المستلم كتابياً وتقليدياً. ويأتي المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول ليركز على دور الأساقفة ولاسيّما البابا إذ أعلن أولويته وعصمته فيما يخص التعاليم العقائدية، وتوقف المجمع بسبب الحرب مما حال دون التطرق في دور باقي الخدمات الكهنوتية، والعلاقة بين مجلس الأساقفة والبابا.
3. المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني
يبدأ المجمع تعليمه في هذا الصدد بتأكيد رسالة المؤمنين الكهنوتية، فيسوع المسيح الذي قُدِّس من قِبَلِ الآب وأُرسل منه إلى العالم يُشرك جسده السرّي كله في مسحة الروح القدس فيصير جميع المؤمنين كهنوتاً وأمةً مقدسة، ولهم أن يعلنوا عن الذي دعاهم من الظلمة إلى النور (راجع يو1/36، مت3/16، لو4/18، أع4/27، 10/38، 1بط2/5،9). من هذه القاعدة العقائدية المرتبطة جذرياً برسالة المؤمنين الكهنوتية ببعديها التعبدي والتبشيري ينطلق المجمع ليحدد طبيعة الكهنوت الخاص، بوصفه امتداداً حقيقياً للرسالة التي أناطَ المسيح الرسل بها ومن بعدهم خلفاءهم. بذلك تتضحُ رسالة العلمانيين، وعلاقة الكاهن بهم، وعلاقته العضوية بسائر أخوته الكهنة، كما تم إيضاح علاقة الأسقف بالكاهن.
ونوجز حديثنا بالقول:" إنَّ المسيح هو المؤسس الوحيد لسرِّ الكهنوت، هذا التأسيس للخدمة الكهنوتية يضمن من دون شكٍ بقاء شعب الله وبناءه كجسد المسيح السرّي. والخدمة الكهنوتية لا تستبعدُ الكهنوت العام بل تفترضه جذرياً وتسهر على إنماءه بأبعادها اللاّهوتيّة الثلاثة المتمثلة في خدمة الكلمة وخدمة الأسرار والرعاية".
ثالثاً: الكنيسة الأنجليكانية وسيامة المرأة
ظهرت في القرن العشرين المناداة بسيامة المرأة من قِبَل الكنيسة الأنجيليكانية بحجة إعلان حقوق الإنسان، فالمرأة في مساواةٍ مع الرجل. يستندُ هذا الرأي في وجهة نظرهم إلى قاعدةٍ لاهوتيةٍ وقناعةٍ عميقةٍ بأنَّّ الخدمةَ المكرسة تفقدُ ملئها لأنَّها تنحصرُ في جنس الرجال فقط هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى وجدوا أنَّ للمرأة مواهبٌ عديدة كمواهب الرجل. وخدمتها في الكنيسة تُبارك من قبل الروح القدس على نحو خدمة الرجل الكهنوتية، ومن ثمَّ لا يوجد ما يعيق تقدمها للسيامة الكهنوتية. والحجةُ الثانية كتابية ألاَّ وهي حديث بولس الرسول إلى أهل غلاطية والذي يدور حول بنوّة محققة في المسيح، وبدورها تلغي كلَّ الفوارق بين الذكر والأنثى. « فليس هناك عبد ولا حُرّ، وليس هناك ذكر وأنثى لأنَّكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع » ( غلا3/26-28).
رابعاً: موقف الكنيسة الكاثوليكية من سيامة المرأة
1. كيف نفهم الحجتين السابقتين فهماً موضوعياً نزيهاً ؟
بالنسبة للحجة الأولى علينا بالانتباه، لكي يصبح أيّ تطور مقبولاً لا يكفي له أن يتفق مع تطور الثقافة والعقلية فحسب. فالسلطة الكنسيّة لم ولن تقبل تغييراً لمجرد توافقه مع حقوق المرأة في ظلِّ نعرةً ديمقراطية سسيولوجيا تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة. فالتطور المطلوب يجب أن يكون قبل كلّ شيء عاملاً متجانساً مع نمو جسد المسيح من دون أن يحمل ايّة مخاطر لهذا النمو، أو أن يمثل تطوراً شاذاً عن ما عرفته الكنيسة من المسيح وتسلمته من الرسل.
أما بالنسبة للحجة الثانية وهي كتابية، وجب علينا الرجوع إلى الهدف العام للرسالة المستند عليها في الصدد، ثم إلى سياق وهدف الآية في حد ذاتها وذلك لندرك المعنى الحقيقي والموضوعي لها. إنَّ الهدف العام للرسالة هو إعلان أنَّ كلَّ مسيحي هو ابن لله في الإيمان بشخص المسيح. وبالتالي الجميع متساوون بالرُّغم من الاختلاف الجنسي والعرقي والطبقي، وهذا لأنَّ الإيمان يوحدهم في جسد المسيح الواحد, ومن ثمَّ لا يعني الرسول بولس هنا المساواة بين الرجل والمرأة في الكهنوت، وإنَّما المساواة في كون الجميع أبناء لله في المسيح يسوع بالمعمودية .[/b][/size]