ب[b][size=24]- عبادة صنم السُلطة
يتوق الإنسان إلى أن يُعتبَر ويُعترَف به شخصيّاً. يريد أن يُعترَف به في الجماعة البشريّة، ويُعتَبَر تبعاً لما يقدر أن يصنع ولما يحقّق، ويريد أن يكون له نفوذ ويمارس سُلطة. متى وُضع هذا التوق، كما ينبغي، في خدمة الشخص البشري والجماعة البشريّة، نحن أمام قيمة إيجابية.
بيد أنّ الرغبة في الاعتبار والاحترام والسُلطة تصير تهديداً متى تشوّه السعي إلى الاعتبار والسُلطة. فالعطش إلى الاعتبار يجعل من الواحد إنساناً وصوليّاً، فلا يفكّر بعد إلاّ في ما يبغي الوصول إليه، ويزيل دون تردّد كلّ ما يقف عائقاً في طريقه، وهو مستعدّ حتّى للتخلّي عن إيمانه ودينه إن كان في ذلك سبيل لبلوغ هدفه. والكبرياء والغطرسة تحملان الآخر على تنصيب نفسه فوق جميع الناس، وهو يستفيد من منصبه ويصير طاغية. والثالث، وقد امتلأ ثقة بنفسه بوجه خاطئ، لا يعود يثق بشيء، ولا حتّى بالله، ويعتقد أنّه لا يمكن الاتّكال على أحد، ولسان حاله يقول: أعِنْ نفسَكَ بنفسكَ، حينئذٍ يعينكَ الله.
هذه الأشكال من عبادة صنم السُلطة واعتبار الذات تعكس مواقف تناهض مناهضة عميقة إرشادات يسوع لتلاميذه: "تعلمون أنّ الذين يُعدّون رؤساء الأمم يسودونهم، وأنّ عظماءَ هم يتسلّطون عليهم. وأمّا فيكم، فليس الأمر هكذا. بل مَن أراد أن يكون فيكم كبيراً فليكنْ لكم خادماً، ومَن أراد أن يكون الأوّل فليكنْ للجميع عبداً" (مر 10/42-44). وموقف الأمَة المستعدّة الذي اتّخذته مريم قادها إلى القول: "هاءنذا أمَة الربّ. فليكنْ لي كما قلت" (لو 1/38).
أمّا الطريق الأسمى في الطاعة والخدمة فهو الذي سلكه يسوع نفسه: "هو القائم في صورة الله، لم يعتدّ مساواته حالة مختلسة، بل لاشى ذاته، آخذاً صورة عبد، صائراً شبيهاً بالبشر، فوُجد كإنسان في الهيئة. ووضع نفسه، وصار طائعاً حتّى الموت، موت الصليب" (فل 2/6-
. كثيرون، اقتفاء بيسوع، يبذلون ذواتهم بذلاً كاملاً في سبيل الله. فالله وحده يجب أن يكون ربّ الحياة. وهذا يفسح أيضاً في المجال أمام الناس لطريقة جديدة للعيش معاً.
ج- عبادة صنم المتعة واللذّة
الإنسان يتوق إلى المتعة واللذّة. هذا السعي مرتبط بدواعٍ كثيرة. فنتكلّم مثلاً على لذّة الحواس (النظر، والشمّ، والذوق، والسماع، واللمس)، وعلى المتعة الروحية. هناك أيضاً ميل حتّى في جعل متعة اللذّة مبدأ العمل والسـلوك الخلقي. بموجب هذا المفهوم، يجد الإنسان سعادته في إشباع حاجـاته الغريزية، في التمتّع باللذّة.
كثيرون يرون في إتمام الجنس وفي المتعة الجنسية هدفاً هامّاً في حياتهم. وفي الواقع إنّ رغبة الاكتمال الجنسي هي جزء من ديناميّة الحياة البشريّة. ولها، بصفة كونها قوّة محرّكة معطاة من قِبل الله، أهمّية كبرى بالنسبة إلى الحياة البشريّة. وهي، باتّحادها بقوى الإنسان الروحيّة، على نحوٍ ما محرّك العمل. فيجب على الإنسان من جهة ألاّ يخنقها، كما يجب عليه من جهة أخرى ألاّ يترك لها العنان: إنّها موكلة إلى مسؤوليّته. فإن اندرجت في الحياة اندراجَ واقع إنسـانيّ حقيقي، يمكن أن توفّر للإنسان سعادة عميقة، ولكن يمكن أيضاً أن تتحوّل إلى قدرة تعذّبه وتسيطر عليه إلى حدّ أنّها تُفقده حرّيته، فيصير فريسة غرائزه الجنسية ويجعل من الجنس صنم حياته.
لقد حكمت الكنيسة، عبر كلّ العصور، في تعليمها الأخلاقي، على عبادة صنم الجنس. كلّ شكل من أشكال إجلال الله من خلال نشاط جنسي هو غريب عنها. وهي تعتقد أنّ تأدية العبادة للجنس كإلى صنم يجعل الإنسان في داخله عبداً للغريزة، التي يمكن أن تتسلّط على الناس بحيث لا يعود الجنس يحظى لديهم بالتقدير العاقل. عبوديّة كهذه لا تدمّر الحبّ بين الناس وحسب، بل تقوّض أيضاً المحبّة الواجبة لله.
ثالثاً: العبادة المسيحية: "المشورات الإنجيلية"
يعدّ التقليد المسيحي عبادة صنم الشهوة من بين الرذائل التي يستسلم لها الإنسان بسهولة في سعيه نحو الامتلاك والسلطة والمتعة: "شهوة الجسد، وشهوة العين، وصلف الغنى" (1يو 2/16). في مقابل هذا الخطر، يجب أن يتصرّف الإنسان بحيث يتّخذ موقفه من السُلطة والامتلاك واللذّة مكانه المناسب في مجمل حياته. وفي هذا الموضوع، يكتسي التقشّف والتجرّد أهمّية كبرى بالنسبة إلى النمط الذي يتّخذه الإنسان نهجاً لحياته. ذلك أنّ كلّ إنسان مسؤول عن اختيار الأسلوب الصحيح لتحقيق رغائبه الأساسيّة. إحدى الطرائق الخاصّة للتصرّف بالنسبة إلى الخيرات والجنس والسُلطة هي الاختيار الحرّ للفقر والعفّة والطاعة كنمط حياة انتشر في الكنيسة بتعبير "المشورات الإنجيلية".
يعود تعبير" المشورات الإنجيلية" إلى القرن الثاني عشر، بيد أنّ هذا النمط في الحياة معروف في الكنيسة منذ بدايتها كطريقة مثالية لاتّباع المسيح، اقتداء بتلاميذ يسوع مع معلّمهم. في عصر آباء الكنيسة وفي لاهوت العصر الوسيط، اتّخذ مقطع الشابّ الغني مثالاً لتمييز طريقين في الحياة المسيحية: طريق الوصايا وطريق المشورات. وعُدَّت هذه الطريق الأخرى طريق الكمال.
أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني وجود دعوة مشتركة بين جميع المسيحيين إلى القداسة وإلى الشركة مع يسوع المسيح. فجميع المسيحيين مدعوون إلى المحبّة الكاملة التي يمكن الوصول إليها بطريقين. المشورات الإنجيلية تشكّل نهجاً خاصّاً في الحياة المسيحية، ومبرّر وجودها أنّها علامات. وهي الطريق الفضلى للمدعوين إليها بمعنى أنّها لهم نهج الحياة الصحيح.
رابعاً: صورة الله في يسوع المسيح
لن نتوصّل أبداً إلى معرفة أعماق الله، الذي هو الإله العظيم إلى ما لا نهاية، إنّه يبقى السرّ الذي لا تقوى على التقاطه لا الكلمات، ولا الصور ولا التصوّرات.
الكتاب المقدّس يكلّمنا على الله بطرائق كثيرة. وهو يروي مسيرة الله مع الإنسان ويتكلّم على الله بوساطة صور ملوّنة بألوان عجيبة يكمّل بعضها بعضاً. التقاط الله بصورة جامدة هو، في نظر شعب الله في العهد القديم، انتهاك للأقداس. لا يمكن إدراك الله في صور هي صنع أيدي البشر. ومع ذلك يتكلّم الكتاب المقدّس، بأقوال وتصوّرات، على إله التاريخ الذي رافق الشعب على طريق تحريره، وحرمانه، وأخطائه وارتداداته. هذا الإله هو الإله الحيّ الذي يخاطب الإنسان فيقول له: "أنتَ". ليس الإنسان هو الذي يتصوّر الله، بل الله هو الذي يعرّف عن نفسه بكلامه ووحيه وعمله. ولأنّ الله يخاطب الإنسان على هذا النحو، ويأتي إلى مبادرته ويمنحه بالتالي إمكانيّة مواجهة شخصيّة معه، يمكن الإنسان ويجوز له أن يخاطب الله الكلّي القدرة ويقول له: "أنتَ".
الإله الذي يكشف عن نفسه يلتقينا كشخص. فكيف لا يتحدّث عنه الإنسان كما يفعل في حوار مع أشخاص؟ لذلك يتكلّم الكتاب المقدّس على الله بصور كثيرة التنوّع، هي بمنـزلة أمثال ودلائل: فالله هو الحبيب الغيور، الذي يسعى في إثر الإنسان، ويغضب، ويحزن، ويثأر، ويدمّر، ويعيد البناء.. الله هو أب، ويرأف كما ترأف الأمّ (أش 49/15)، هو ملك وراعٍ، هو حكمة وكلمة، وهو يضيء بوجهه علينا، وقد "نقشنا على راحة كفّيه" (أش 49/16). كلّ الكلمات والتصاوير التي نستعملها للكلام على الله ممكنة، لأنّنا على صورته. بصفة كوننا أشخاصاً، نستطيع أن نتكلّم على الله الشخصي من خلال كلمات بشريّة، ونستطيع في الوقت عينه أن نتكلّم على صورة الله في الإنسان.
صورة الله استنارت أكمل استنارة في ابنه يسوع المسيح الصائر إنساناً. فهو "صورة الله غير المنظور" (كو 1/15). ويستطيع أن يقول عن نفسه: "مَن رآني فقد رأى الآب" (يو 14/9). ليس الإنسان هو الذي يصنع صورة عن الله، بل الله نفسـه يأتي إلى أمام الإنسان في صورة ابنه. يسوع المسيح لا يبلّغنا صـورة أبيه وحسـب، بل هو طريقُنا إليه: "لا يستطيع أحـد أن يذهب إلى الآب إلاّ بي" (يو 14/6). في يسوع المسيح أُعطي لنا أن نرى مَن يريد الله أن يكون بالنسبة إلينا. عندما نصير إخوة يسوع وأخواته وأصدقاءه، نصير أبناء الآب. وهذا لا يزيل بأيّ شكل من الأشكال المسافة التي ينطوي عليها تحريم الصور. الله يمنحنا أن نشارك في سرّه، ولكنّه يبقى سرّاً.
إنّ وفرة الكلمات والصور التي تعبّر عن اشتراكنا في سرّ الله في يسوع المسيح تسمح بأن يتعلّق كلّ واحد منّا بالصور والتصوّرات الأقرب إليه. فالمقصود هو البلوغ إلى علاقة شخصيّة مع الله. الله يحبّ كلّ واحد في فرادة شخصه وخصوصيّته. وعلينا نحن أن نحبّ كما يحبّنا الله: "مَن ثبت في المحبّة ثبت في الله، وثبت الله فيه" (1يو 4/16).
الخـاتمة
إنّ الحياة في الشركة مع الله تبدأ بالمعموديّة، إذّاك نلج العهد الأبدي مع الله، الآب والابن والروح القدس. المعموديّة تعطى باسم الثالوث القدّوس. يسوع، الابن، يُدخلنا في علاقته، علاقة المحبّة، بالآب، ويملأنا من روحه القدّوس الذي فيه نستطيع أن نقول: "أبّا، أيّها الآب الكلّي الصلاح". مَن يعتمد يعلن مواعيد معموديّته، وبها يرتبط بالله الذي، في يسوع المسيح، يدعوه إلى الخلاص ويهبه نعمته: "النعمة مشاركة في حياة الله، تدخلنا في صميم الحياة الثالوثية: فبالمعموديّة يشترك المسيحي في نعمة المسيح رأس جسده. وبصفة كونه "ابناً بالتبنّي" يستطيع أن يدعو الله "أبـاً" بالاتّحاد مع الابن الوحيد. وهو يتقبّل حياة الروح الذي ينفخ فيه المحبّة والذي يكوّن الكنيسة" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية).
هذا ما تقتضيه الوصيّة الأولى، في مستهلّ سلسلة الوصايا: التزام نحو الله، إله المحبّة الذي، في يسوع المسيح، دعانا إليه دعوة نهائية. ويجب، باستمرار، تجديد هذا الالتزام.
المراجع
المرجع الأساسي: "المسيحية في أخلاقيّاتها" (التعليم المسيحي الكاثوليكي للبالغين). سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، رقم 19 – منشورات المكتبة البولسية – لبنان، ط1 1999.
عن موقع القديسة تريزا: جمعية التعليم المسيحي بحلب[/size][/b]