[b][size=24]العِنَايَة الإِلَهِيَّة
مقـدّمـة
العناية الإلهية عقيدة أساسية من العقائد المسيحيَّة. ولولاها لما بقي معني لسائر العقائد. ومع ذلك فالعامَّة والخاصَّة من الناس يتأثَّرون جدًا من الاعتراضات التي تثور عليها، وأهمّها واقع الألم والشرّ
إنطلقنا في إثبات هذه العقيدة من الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد؟ وليس أفصح منه بهذا الخصوص. ثم انتقلنا إلى تأمّل نظام العالم البديع الذي يوحي ويؤكّد لكلِّ عاقل أنَّ الخالق رتَّب الأمور بحرصٍ شديدٍ واهتمامٍ دائب.
إثر ذلك تفرَّغنا لمعالجة مشكلة الشرّ وهو من أهمّ المعضلات في حياة الإنسان. وميَّزنا أنواع الشرّ المختلفة، أيّ الشرّ الكيانِيّ والشرّ الطبيعيّ والشرّ الأدبِيّ. ثمّ تبسّطنا في شرح خمسة مبادئ تفسِّر لنا وجود الشرّ وعدم تعارضه مع العناية الإلهيَّة. فرأينا أنَّ الشرور الطبيعيَّة ليست شرورًا إلاَّ لقصر النظر وليست شرورًا بحدّ ذاتها بل قوانين طبيعيَّة تنظّم الكون وفيها خَيْرَه.
ثم أظهرنا أنَّ الإنسان هو في أغلب الأحيان سبب شقائه حين يخالف القوانين الطبيعيَّة أو الأدبيَّة التي سنَّها الخالق لخير عباده.
وأصررنا خاصّة على مدى أذى الخطايا التى هي مخالفات للشريعة الأدبيَّة، وأوضحنا كيف أنَّ قانون التضامن يضاعف من هذا الأذى ويمدّ أثره على العائلة والمجتمع وعلى الإنسانيّة جمعاء.
ثم استعرضنا فوائد الألم الطبيعية ممَّا يجعل فيه كلّ النفع للإنسان والإنسانيّة. وانتهينا من هذا القسم بشرح دور الألم التكفيريّ والخلاصيّ وهو دور في غاية الأهمّية للمسيحيّ، ينتج عن عقيدتَي التجسّد والفداء، ويُظهر بُعْدَها في واقع الحياة المسيحيّة.
وهنا تعرضنا لاتهام ظالم تلصقه الماركسيّة بالدين المسيحيّ وهو أنَّ الدين عامَّة والمسيحيّ خاصّة يحمل الإنسان على القبول بالظلم والاستسلام له باعتبار أنَّ إرادة الله تفرضه عليه ويجب الخضوع لإرادة الله التي لا مردّ لها. فأظهر أنَّ الديانة المسيحيّة بالعكس، على لسان السيّد المسيح وأسوة بمثال حياته، تفرض علينا كأهمّ الواجبات مكافحة الآلام البشريّة والسعي إلى التخفيف منها تعبيرًا عن محبّتنا لله التي وَجْهُها لثانِي محبَّة القريب. ثم رأينا أنْ نبحث بالتفصيل في بعض الشرور مثل الموت والخطيئة والحروب وسعادة الأشرار وتعاسة الأبرار، لنطبّق عليها المبادئ التي قدّمناها حلاً لمعضلة الشرّ عامّة، ولنجد أخيرًا أنَّ لا شرّ إلاَّ من فعل الإنسان، وأنَّ الله مع ذلك يستخرج من كلِّ شرّ خيرًا أكبر. وهكذا نجلو حكمة الباري تعالي وجودته وعدله ومحبّته. وعدنا في النهاية إل تأمُّل جودة الله وصلاحه، وهو الأساس في موضوعنا، حتّي تسطع الصورة بأزهى ألوانها ولا تتغلّب عليها الظلال.
وتركنا أخيرا الصوت المرنِّم الملهم صاحب المزامير أنْ يكلّمنا شعرًا، بالروح القدس، عن الله وما الله. وهو تعالى ولى التوفيق.
العناية الإلهيّة
نعني بالعناية الإلهية اهتمام الله المتواصل بجميع محلوقاته ليحفظها ويُوَجّهَها إلى الغاية التي وُجِدَت من أجلها، توجيهًا يتّفق وطبيعتها؟ فيسيِّر المخلوقات غير العاقلة تسييرًا جبريًا، ويُوجّه المخلوق العاقل محترمًا حرّيّته وعارضًا عليه وصاياه.
نفى البعض وجود العناية الإلهيّة على أساس أنَّه لا يليق بالكائن الكامل أن يهتمّ بالكائنات غير الكاملة ،إذ إنَّ في مثل هذا الاهتمام حطًّا من كرامة الألوهة. هذا ما جاء مثلاً في تعليم أرسطو.
ونفى آخرون حرّيّة الإنسان وادّعوا أنَّ الأمور تسير في العالم وفقًا لقدر محتَّم. وذهب آخرون إلى أنَّ العالم يحافظ على وجوده بقوانينه، مستقلاً عن الله تعالى خالقه.
وعقيدة العناية الإلهيّة محوريّة في الدين المسيحيّ، إذْ إنَّنا نستنتجها من طبيعة الله - الحبّة. فإذا كان الله محبة فلا يمكن أن يتخلَّى عن خلائقه بعد أنْ أتى بهم إلى الوجود. ولا بدّ أنْ يمدّهم دائمًا بما يحقّق كمالهم وسعادتهم. وكون اللة محبَّة يشرح وجود الثالوث الأقدس، والخلق، والتجسّد، والفداء، وتأسيس الكنيسة والأسرار، والنعمة والحياة الأبديّة، وفاعلية الصلاة.
ومن الطبيعي أنْ نبدأ بسؤال الكتاب المقدّس عن هذا الموضوع. والواقع أنَّ العناية الإلهيَّة تبرز في كل صفحات الكتاب المقدّس الذي لما كان له من معنى لو كان الله لا يهتّم بنا ويرعانا. وإذا كانت كمالات الله غير متناهية فكذلك أيضًا عنايته بخلائقه.
في العهد القديم
يظهر لنا شخص الله بصفات الأب الذي يسهر على خلائقه ويوفّر لها حاجاتها: " ترزق الجميع طعامهم في حينه "(مز 144-15:145). ويرزق البهائم مثلما يرزق البشر (مزمور35- 7:36و146- 147 :9). ويؤكّد سفر أيوب (10: 12) رعاية الخالق اليقظة نحوخلائقه.
ويُظهر لنا العهد القديم عناية الله بالآباء (تكوين 10: 6 - 7)، ويشير خاصّة إلى عمله الخفي والفائق في قصّة يوسف الصدّيق، حيث يسخّر نفسه في خدمة قصده الخلاصيّ: " فالآن لم تُرسِلوني أَنتُم إِلى ههُنا، بَلِ اللهُ أَرسَلَني وهو قد صَيَّرَني كأَبٍ لِفِرعَون وكسَيِّدٍ على بَيتِه كُلِّه كمُتَسَلِّطٍ على كُلِّ أرضِ مِصْر.... أَنتُم نَوَيتُم عَلَيَّ شَرًا، واللهُ نَوى بِه خَيرًا، لِكَي يَصنَعَ ما ترَونَه اليَوم لِيَهَبَ الحَياةَ لِشَعبٍ كَثير(تك8:45،50/20)، يستطيع إذًا الشعب المختار أنْ يواجه الصحراء، فسوف يقوته الله يوميًا"عَلَى قَدْرِ أَكْلِه"(خ16/15-18).
ويعلن الأنبياء سلطان الله هذا، حيث يَعْلَم أزليًّا كلّ ما سيحدث (أشعيا 7:44)، وعليه تتوقَّف السعادة أو التعاسة (عاموس 6:3وأشعيا 45: 7 )، وهو يدبِّر كلَّ شيء ويولّي السلطة لمن يريد (إرميا 27 : 5- 6).
وجاء في كتب الحكمة: " الإنسان في التفكير والربّ في التدبير " (أمثال 16: 1 و33)؛ " كل شيء يأتِي من الله " (سيراخ 11 :14)؛ " الخير والشرّ، الحياة والموت، الفقر والغنى؛ يملك الله على العالم، وكل ما فيه ينفِّذ أوامره " (سيراخ 14: 4 و39: 31 ).
وفي المزامير: إنّ الله مسيطر على خلقه ويمنح له الخصب ( مزمور 64-65: 7-14)؛ ويحفظ شعبه فِي كلّ شيء وفِي كلّ حين (مزمور 120-121)؛ وبدونه باطل هو مجهود البشر وباطلة حراستهم (مزمور 126 :1)، وهو كراعٍ صالحٍ، يقود نعاجه مطمئنّة في قلب الظلمات نحو السعادة (مزمور 23). وباختصار " فوَّضْ إلى الربّ طريقك وتوكلّ عليه وهو يفعل " (مزمور 36- 37: 5 ).
وكلّ ما ورد في الكتاب المقدّس من حوادث تاريخيّة يدلّ على أنّ يد الله تقود الأمور لصالح مختاريه، وأنَّ اهتمامه بهم دائم، وعنايته بهم متّصلة، يؤدّبهم ويكافئهم، ولا ينفكّ يرعاهم؛ حتّى جاء في أشعيا قول الرب : " أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ ولكن ولو هؤلاء نسين لا أنساك أنا " ( 46: 5).
فى العهد الجدبد
يعلِّم السيِّد المسيح بنوعٍ عارض عناية الله بالكون، ولكِّنه يؤكِّد بنوعٍ خاصٍ عنايته بالإنسان فيقول: " أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ و لا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ ومَنْ مِنكُم ، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إِلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة؟ ولماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل. أَقولُ لكُم إنَّ سُلَيمانَ نَفسَه في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها. فإِذا كانَ عُشبُ الحَقْل، وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً في التَّنُّور، يُلبِسُه اللهُ هكذا، فما أَحراهُ بِأَن يُلبِسَكم، يا قَليلي الإيمان!" (متّى 26:6 -30).
وقال أيضا: " أَما يُباعُ خَمسَةُ عَصافيرَ بِفَلسَيْن، ومَعَ ذلكَ فما مِنها واحِدٌ يَنساهُ الله. بل شَعَرُ رؤوسِكم نَفسُهُ مَعدودٌ بِأَجمَعِه. فلا تخافوا " (لوقا12: 6-7). ويزيد فكره وضوحًا فيقول: " فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أوماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟. فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه." (متى 6: 31-33). كما علَّم يسوع الناس أن يتضرَّعوا إلى الله ببساطة قائلين: " يا أبانا: أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا " (متّى 6: 11).
وخلاصة القول، إنَّ العهد الجديد يحافظ على تصوُّرات العهد القديم ، لكن يسوع المسيح يوجِّه أنظار سامعيه نحو عناية الله بالبشر جميعًا دون استثناء أو تمييز (متّى 5، 45؛ لو 6،35). ولقد حثَّ يسوع تلاميذه على أنْ تكون ثقتهم كاملة بالله (متّى 6،25- 35)، وأن يسلكوا الطريق الضيذق الذي سلكه هو بنفسه (متّي 10 ، 34؛ 16 ، 24). وبذلك أظهر لهم يسوع معني الألم والدور الذي يلعبه في تدابير العناية الإلهيَّة (متى 7،13 ؛ لو 13، 14). وبما أنَّ الخلاص الذي أتى به يسوع هو تحقيق للمخطَّط الخلاصيّ الإلهيّ، فإنَّ فكرة العناية الإلهيّّة تأخذ منحى جديدًا في العهد الجديد: إنَّها إعلان متواصل وفاعل لمحبّة الله وإرادته في خلاص البشر. بذلك تصبح العناية الإلهيَّة القاعدة الأولي التي تبنى عليها الثقة المسيحيَّة، التي تؤمن بأنَّ كلّ الأمور تهدف إلى خير الذين يؤمنون بالله (روم 8، 28).
فى واقع نظام العالم
وتتجلَّي العناية الإلهيَّة في واقع نظام العالم. إذْ إنَّ العلّة الفاعلة لا يمكنها أنْ ترسم غاية لفاعليّتها وأنْ توجِّه العمل شطر هذه الغاية إلاَّ إذا تمتّعت بالعقل والذكاء. فإذا نظرنا إلى أي جسم في الطبيعة، نباتًا كان أو حيوانًا، نجد فيه تنظيمًا، أي إنَّ له غاية معيَّنة وهو مجهَّز بالوسائل الكافية التي تمكِّنه مِنْ بلوغها. وكذلك الأرض ككلّ، إذ هي أحد عناصر النظام الشمي.
فالأجرام السماويَّة مثلاً تؤلِّف تصميم ساعة عطيمة توقِّت جميع ساعاتنا. ولها هذه الميزة بالنسبة إلى ساعاتنا بأنَّما لا تنعطب ولا تتوقَّف. فإذا كانت الساعة تفترض وجود ساعاتِي ماهر قام بعملها فكم بالحري يفترض الكون خالقًا أوجده بهذا النظام الدقيق. وهذا الخالق حتمًا عظيم الذكاء نظرًا لأعماله، فهل من المعقول أنْ يعمل عبثًا ويتخلَّي عن مخلوقاته فلا يهمّه مصيرهم؟.