[size=24]-1 إرادة الملائكة الحرة
لقد خلق الله السموات والأرض، وما يدب عليها من كائنات. ومن بين تلك المخلوقات خلق الملائكة. خلقهم دون شر، لأنه الخير الأسمى كما ذكرنا آنفاً. وأعطاهم حرية الإرادة، إلا أنهم سقطوا في الشر بإرادتهم، لأنهم أساءوا إلى استعمال الحرية، واستخدموها استخدام خاطئ. وهذا ما يؤكده القديس أغسطينوس: "فقد شاء أن يكون إبليس، الذي خرج صالحاً من يد الله، أن يصير شريراً بإرادته الذاتية " . إذا الملائكة الأشرار، خلقهم الله صالحين بطبيعتهم ولكنهم سقطوا بإرادتهم، وقد أسقطتهم خطيئتهم، في الأماكن السفلى من هذا العالم، التي هي بمثابة سجن لهم إلى يوم الدينونة والقضاء الأخير. وهذا ما يجاهر به القديس بطرس الرسول بوضوح قائلاً: "ما غفر الله للملائكة الأشرار إثمهم، فوضعهم في سجون جهنم المظلمة انتقاما منهم لعدله " (2بط 2/4 ). بالتالي كان عقابهم الهلاك الأبدي.
ولابد من أن نميز بين مجموعتان من الملائكة إحداهما ذات طبيعة جيدة وإرادة حسنة والأخرى سيئة بإرادتها وحسنة بطبيعتها. فيجب أن نأخذ في الحسبان "أن ميول الملائكة الصالحين والأشرار المتناقضة وليدة التناقض بين الإرادات والرغبات فيهم وليس وليدة الاختلاف في الطبيعة. ولكن المبدأ طالما أن جميعهم من خلق الله، الصانع والخالق لكل جوهر صالح بطبيعته، فهذا ما لا يجوز الشك فيه " .
4-2 إرادة الإنسان الحرة
كما حدث مع الملائكة الساقطين في الشر بإرادتهم، نتيجة لعدم الاستخدام الأمثل للحرية، كذلك إرادة الإنسان الحرة، هي سبب من أسباب جلب الشر والألم في العالم والوقوع فيه. لأن الكتاب المقدس يكشف لنا أن الإنسان لم يُخلق خاطئاً، وأن الشر والألم ليس من صلب طبيعته البشرية، إنما قد وضع الله أمامه الحياة والموت، الخير والشر. ومنحه الحرية والإرادة. ولكن للأسف لقد أستخدم الإنسان حريته بطريقة غير صحيحة. إذ يقول القديس باسيليوس في القداس الإلهي " يا الله العظيم الأبدي يا من خلقت الإنسان باراً على غير فساد ..." . وقد تحوّلت هذه الطبيعة الخيّرة، إلى فاسدة. لكن الله بفضل منه يستطيع أن يرد هذه الطبيعة إلى الخير. وهذا هو الفضل أو اللطف الإلهي الذي هو شرط أساسي لوجود الإنسان ونجاحه.
بما أن إرادة الإنسان الحرة هي سبب وجود الشر والألم في العالم، نستطيع أن نقول: أن الشر كامن داخل الإنسان لا خارجه. وهذا ما قضى فيه القديس أغسطينوس وقتاً طويلاً باحثاً فيه منادياً الله قائلاً : "من خلقني أليس الهي الصالح؟ ومن أين أتتني إرادتي الشريرة وامتناعي عن الخير؟ ألكي أتحمل قصاصات مستوجبة؟ من وضع فيّ بذور المرارة كلها طالما خلقني الله كلي الصلاح؟ إن كان من صنع الشيطان، فمن خلق الشيطان؟ ومن أين أتته الرغبة الشريرة، التي جعلته شيطاناً طالما أنه خُلق ملاكاً على يد خالق كلي الصلاح؟ " . وبعد هذه المعاناة التي قضاها القديس أغسطينوس، باحثاً على علة الشر أخيراً وجد أن الشر داخل الإنسان لا خارج عنه. لذلك عبّر عنه قائلاً: "وهناك يظنون أنك تقبل الشر ولا يظنون أن الإنسان يعمله " .
4-3 تمايز الخليقة عن خالقها
أن تمايز الخليقة عن خالقها، هو سبب من أسباب جلب الشر في العالم. والأكثر من ذلك، احترام الله لهذا التمايز. نرى هذا بوضوح في كتاب الله والشر والمصير إذ يقول: إذا كان الله لا يصدر عنه إلا ما هو حسن وصالح من أين يأتي الشر إذا؟ "الشر ناتج من كون الخليقة- حتى وأن كانت تستمد وجودها من الله – متمايزة عن خالقها ومن كون الخالق أيضاً يحترم هذا التمايز " . هذه الخصوصية التي بدونها لما كانت الخليقة قائمة فعلاً، بل تحولّت إلى مجرد ظل وامتداد للخالق. فالله يمد الخليقة بالوجود، وينسحب منها لكي يمكن لهذا الوجود أن يقوم بحد ذاته. كما إنه يريد أيضاً، بأن يكون لوجود الخلائق نمطها الخاص المتميز عن نمط وجود الخالق. ومن طبيعة هذا النمط الخاص بالخلائق، بأنه يكون معرض للاضطرابات، بالتالي للشر والألم، وذلك لأنه متمايز عن كمال الخالق. وهذا لا يمنع أن الله يعمل دائماً باستمرار في الخليقة.
5- أنواع الشر
هناك نوعان من الشر، شر طبيعي وشر أدبي. والإنسان معرض لكلا الشرين. فهو بطبيعته خاضع للمرض والموت، ومعرض للخطيئة أيضا. ولكنه يستطيع بإرادته أن يبتعد عن الخطيئة. إذ انه ليس إلهاً بل خليقة. ولذلك فهو غير مؤهل بطبيعته، بأن يتجاوز المرض والألم والموت، وهذا نتيجة كون الإنسان خليقة محدودة أما الشر الأدبي من كونه خليقة حرة.
5-1 الشر الطبيعي
لا نستطيع أن ننكر، أن العالم الذي نعيش فيه، لا يزال غير كامل. يشوبه النقص في مختلف نواحيه البيولوجية، والأخلاقية. بالتالي الشر الطبيعي "هو مجرد نقص في كيان الأشياء. وهو غير متعلق بإرادة الإنسان ولا يستطيع أن يتجنبه على الأقل في الوضع الراهن الذي نعيش فيه " .
ويظهر هذا النقص في الشر الطبيعي والشر الأدبي. فالشر الطبيعي هو الكوارث الطبيعية والأمراض، وقسوة الصراع من أجل البقاء، وناموس الموت والفناء. هذه الشرور الطبيعية تسبب آلاماً كثيرة، وتسحق العديد من الكائنات. ولكن لا يصح أن يقال أنها من الله تأتي، لأن الله يعاني من أجلنا بسبب كل الشرور التي تفتك بالأرض كما قال الفيلسوف الكاثوليكي "جاك ماريتان " : "إن الله حاضر مصلوباً على كل شر الكون " .
ولكن السؤال الذي نستطيع أن نطرحه هو: لماذا يخلق الله طبيعة معرّضة للمرض والموت؟ إن الرد على هذا السؤال: هو إنه مستحيل أن يحدث ذلك، لأنه لو وُجدت تلك الطبيعة، لما كانت طبيعة مخلوقة، بل طبيعة إلهية غير منفصلة عن طبيعة الله. فهناك فرق جوهري بين والولادة والخلق. فنحن المسيحيين نؤمن أن كلمة الله مولود من الآب منذ الأزل. لذلك هو واحد مع الآب في الجوهر. وكذلك نؤمن أن الروح القدس منبثق من الآب والابن قبل كل الدهور، لذلك هو واحد مع الآب في الجوهر. فالتمييز بين الأقانيم الإلهية، لا ينتج منه اختلافاً في الطبيعة. أما في الخلائق فليست مولودة ولا منبثقة من جوهر الله، بل هي مخلوقة، لذلك فهي مختلفة عن الله اختلافاً جوهرياً. لأن الله لا حدود لكيانه ولا نهاية لذاته. إنه منذ الأزل وإلى الأبد. أما الخلائق فمحدودة في المكان والزمان، وخاصة للمرض وللموت. وكما أن كمال الله هو فيه صفة جوهرية، وأمر متعلق بجوهره، كذلك نقص الخلائق هو فيها أمر جوهري، أي مرتبط بجوهرها. ومن هذا النقص ينتج ضعف الإنسان، ومرضه، وألمه، وموته. لأنه أيضاً مركب وكل مركب لا بد أن ينحلّ. هذا هو الشر الطبيعي.
5-2 الشر الأدبي
يُدعى الشر الأدبي في اللاهوت بالخطيئة. ولم يكن هذا الشر أقوى من الإنسان، لأن الإنسان لديه القدرة على مواجهته، ويستطيع أن يتغلب عليه، وإذا سقط فيه فبإرادته. "وهذا الشر يستطيع الإنسان أن يتحاشاه، وهو مسئول عنه لأنه يصدر عنه وهو في كامل وعيه وملء إرادته " . إن هذا الشر، هو وليد الحرية التي يمنحها الله للكائنات العاقلة على صورة حريته، لكنها حرية مخلوقة، أي غير كاملة بالتالي أصبحت قابلة للاضطرابات والشرور. وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول: إذا كان الشر الطبيعي ناتجاً من طبيعة الإنسان المحدودة، فالشر الأدبي ناتج من سوء استعمال الإنسان حريته. لأن الله لم يخلق الإنسان خاطئاً كما ذكرنا آنفاً. لكن خلقه حراً، وفي الحرية يكمن إمكان الخطيئة وفعل الشر والإحساس بالألم. وفي الحرية أيضاً يكمن التألّه. فالله لا يستطيع أن يخلق الإنسان عن رغمه، لذلك عليه أن يشارك في بلوغ كماله في الله. هذه هي الحرية. لأن الحرية لم تكن اختيار بين خير وشر، إنما هي الشروع في بناء الذات.
كثيراً ما يعتقد البعض إنه يكون حراً عندما يختار الشر، ولا يدري انه في الواقع مستعبد للشر وهذا ما يعلنه يسوع "كل من يعمل الخطيئة هو عبداً للخطيئة " (يو 8/ 34 ).
كلمة أخيرة نستطيع أن نقولها: أن الشر الأدبي والألم، الذي دخل بإرادة الإنسان وحريته التامة ليس مطلقاً. لأن أصله هشّ ويمكن أصلاحه من الأساس " لقد أساءت البشرية التزامها لذلك قابلة للتوبة والإصلاح لأن حريتها دائماً في حالة التكوين وتبقى طويلاً في حالتها الناشئة " . ولذلك يمكن تهذيب هذا الشر من خلال ممارسة الأسرار والأعمال التقوية.[/size]