[size=24][size=18]مقدمة
يقاسي العالم المعاصر، مثلما قاسى التاريخ البشري، على مرّ العصور في كافة حقبات تكوينه ومراحل تطويره، صراعات لا تهدأ ونوبات تهزه هزاً عنيفاً، حتى إنه لا يستطيع المقاومة. كما إنه يعاني أزمات لم يسبق لها مثيل، وذلك نتيجة استفحال الشر المتغلغل في عمق كيان الإنسان. كم يعاني الإنسان المعاصر، مثلما عانى سلفه من صرخات وأنّات الألم في جميع مراحل حياته؟ كم يئنّ من جراء تفشي الأمراض والأوبئة، التي تفتك به واندلاع الحروب، والطبقية الاجتماعية، والآفات الإنسانية، من جوع ضار، وفقر مدقع، وحرمان مخيف، وتسلّط المرض والموت عليه.
لذلك لا نستطيع أن ننكر، أن العالم الذي نعيش فيه، لا يزال غير كامل يشوبه النقص في مختلف نواحيه البيولوجية والأخلاقية ويظهر هذا النقص في نوعين من الشر، لابد من التمييز بينهما: الشر الأدبي، وهذا الشر يسقط فيه الإنسان بإرادته ويستطيع أن يتحاشاه. وهناك شر آخر وهو: الشر الطبيعي، مثل: الأمراض والآلام وهذا نتيجة إلى محدودية الإنسان وضعفه.
وفي ظل هذه الصراعات والآلام، التي تلحق بالإنسان والتي أصبحت سمة أساسية في العالم المعاصر، يبقى هناك شعاع من النور وهو العناية الإلهية. التي تدبّر وتحفظ الكون، حتى وإن لم يكن الجميع يشعرون بها. ولذلك جاء عنوان البحث تحت عنوان "بين العناية الإلهية ومسألة الشر والألم " وقد رغبت في أن أتعمّق في هذا الموضوع، ولو بشكل بسيط بسبب كثرة الأسئلة، التي لاحظتها تراود كثيرىىىىؤلاين. كما أن معضلتا الشر والألم، ووجود العناية الإلهية، أصبحتا من الموضوعات التي يجب التوقف عندها قليلاً. ولذلك يعتبر هذا البحث ضوء بسيط، قد يضئ للذين تراودهم أفكار وأسئلة في هذا المجال. لذلك فهذا البحث، يتكون من فصلين أحدهم فيه عرض لمسألة الشر والألم، والآخر فيه عرض بسيط عن معضلة العناية الإلهية وتدبير العالم، وكيفية التوفيق بين وجود الشر والألم، وبين العناية الإلهية.
بين العناية الإلهية ومسألة الشر والألم
1- مفهوم الشر والألم لُغوياً
"الشر هو نقيض الخير، وهو أسم جامع للرذائل والخطايا يقال: هو شر الناس . أما الألم فهو
الوجع الشديد" .
2- مفهوم الشر والألم لاهوتياً
"ينبع الشر عملياً من قرار إرادة الخليقة الحر. إذ أنها بهذا القرار، تقف ضد الخير. وليس لهذا القرار من وجود خاص به، إذ ليس هو بكائن يناهض الله ووجوده ليس منذ البدء. إن هذا القرار هو الإمكانية الخفية يسمح بها الله التي بها تستطيع الخليقة الحرة أن تبتعد عن التفكير بعطف الله الذي هو أصل وجودها كخليقة وبالمعنى الذي تعطيه النعمة لهذا الوجود. هو أيضاً الإمكانية في أن تبتعد الخليقة عن سماع دعوة من في خلقه لنفسه شريكاً حراً . وما هذه الدعوة إلا أساساً كل حرية شخصية. هو أيضاً الإمكانية في الاستمرار في سوء التفاهم" .
"كذلك الألم ينتج عن أن الإنسان في صلته بالعلم يشعر بتناقض ينهك القوى داخلياً وخارجياً الأمور هي هكذا عندما هذه الصلة تشوّه لله ورفض الخلاص" .
3- طبيعة الشر والألم
يتساءل البعض عن طبيعة الشر. ويظل هذا التساؤل يراود كثيرين، حتى أنهم يقضون وقتاً طويلاً بصدد هذا الموضوع، متسائلين هل الشر هو نتيجة غياب الخير، أم أن الخير والشر وجدا في وقت واحد؟ هذا وغيرها من الأسئلة التي يتساءلها ا
خلافاً للمذهب "الثنوي" الذي يقول: بصراع أزلي بين الخير والشر، تؤكد المسيحية أن لا وجوداً أصيلاً إلا للخير. وأن الشر ما هو إلا انحراف عن الخير. يؤكد ذلك القديس أغسطينوس " إن الخير وحده كائن أما الشر فلا كيان ولا طبيعة له " .
إن الخير وحده هو الكائن، لأن مصدره الله، أما الشر فلا كيان له لان وجوده ليس من الله، بل هو نقيض الخير."وليس للشر وجود بل هو عدم الخير " .
4- أصل الشر والألم
تعددت الآراء والأفكار عن أصل الشر فقد ظن البعض أن المادة شر وقد شرع البعض الأخر في أن الشر والألم يأتي من الله.ويقول آخرون: هناك تصارع بين الهين أزليين، إله الخير وإله الشر. وهذا ما نراه في مذهب الزراداشتية الذي يقول: بتصارع بين اله الخير "اورموزد " وبين اله الشر "أهريمان ". كما إننا نراه في عدة مذاهب "غنوسطية " "كالمنوية " وسواها.
وما يقال عن هذه النظرية بافتراض وجود الهين إنها تناقض طبيعة الإلوهية وتتنكر لها. فالله إما أن يكون المطلق وملء الوجود، وهذا ما يقتضيه من جهة اشتياق الإنسان إلى المطلق، ومن جهة أخرى طبيعة الكائنات التي تحتاج أن تستمد وجودها من وجود مطلق. وبالتالي أن يكون ذاك الذي لا يحده أي وجود آخر أو أن لا يكون.
وفي وقتنا الحالي، كثرة الأسئلة بطريقة كبيرة عن أصل الشر من قِبَل المؤمنين، منتظرين تفسيراً مقنعاً عن وجود الشر في العالم إذ يقولون: كيف يمكن التوفيق بين، وجود الشر والألم، ووجود اله أخر رحيم عالم وقادر على كل شيء، متصف بالكمال المطلق؟ نعم أن الله هو الخير الأسمى والأعظم، قد خلق حقاً ما هو صالح منه، ومع ذلك فالخلق والمخلوق كلاهما صالح، إذاً فمن أين يأتي الشر؟ أمن المادة التي كونها وصورها ونظمها؟ لماذا لم يبيدها لبقى وحده الخير الأسمى اللامتناهي؟ لو افترضنا انه لا يليق بالصالح أن يخلق أو ينشئ إلا ما هو صالح، أما كان من واجبه أن يمحو ويعيد إلى العدم، تلك المادة المضرّة وينشئ عوضاً عنها، مادة صالحة يبدع منها كل شيء؟ تلك هي الأفكار التي كانت تراود القديس أغسطينوس، التي رددها في قلبه المثّقل بأشد الوساوس، خوفاً من الموت وتقصيره عن اكتشاف حقيقة الشر. والتي مازال يرددها البعض في عصرنا الحالي. بالتالي إن لم يكن هذا أو ذاك، فمن أين يأتي الشر والألم وما أصلهما؟
أمام هذه الأفكار التي تراود كثيرين، نستطيع أن نعرض وجهة نظر مسيحية عن أصل الشر. في البداية لا بد أن نعي أن "ليس هناك مبدأين للوجود. إنما هناك مبدأ واحد، وهو الله الذي هو بطبيعته ملء الخير والصلاح" . بالتالي أمام الذين يعتقدون، أن الله مصدر الشر نستطيع أن نقول: إنه لا يمكن أن يكون الله مصدر الشر الموجود في العالم، لأن الله هو الخير الكامل ومصدره وعلته. مما يترتب على ذلك أن الخالق، لا يمكن أن يخلق شيء يتنافى مع شيء أخر، بل كل ما خلقه خالقنا هو صالح. "ورأى الله أن جميع ما صنعه فإذا هو حسن جداً " (تك 1/ 31 ). ويشير القديس أغسطينوس إلى ذلك فيقول: "هكذا أدركت وأتضح لي أن أعمالك كلها خير، وفوق ذلك فأنك كوّنت كل جوهر. وبما أنك لم تساوي بين خلائقك، جاءت الأشياء منفردة، جيدة، ومتجمعة. لأن كل ما صنعه إلهنا هو حسن جداً. وبالنسبة إليك لا شر، ولا أقول بالنسبة إليك وحسب بل إلى كل ما خلقت لأنه خارجاً عن هذه الخليقة لا شيء يستطيع أن يستولي على النظام الذي وضعته لها ويعكّرها. عن تنافر أعضائها ينجم الشر، وعن تناسق هذه العناصر فيما بينها وبين سواها ينتج الخير " . إذاً واضح أن الشر بطبيعته غريب عن الله. ولا سيما أنه يعارضه، لأن الله لم يكن من تُنسب له الشرور، وخاصة الطبيعية كالأمراض والمصائب والكوارث، كما يُقال في التعبيرات الشعبية "الله لا يضرّك "مما يفترض أن الله كائن يُخشى ضرره وأذاه. ولم يكن أيضاً الإله الإرهابي، الذي هو على صورة قسوة قلب الإنسان الناتجة عن ضعفه وعجزه وفنائه. ولم يكن أيضاً إله نقيض الإله الذي أنكشف لنا في يسوع المسيح وسيرته. أنما هو الإله الكلي الخير والمحبة. ولكونه الخير المطلق والمحبة المطلقة، لا يمكن أن يكون حيادياً حيال الشر الناتج عن محدودية مخلوقاته لأنه ليس معادياً للشر وحسب، بل مقاوماً له أيضاً. بالتالي نستطيع أن نفسّر وجود الشر والألم من خلال الآتي[/size]:
4